الأحد، 20 سبتمبر 2009

ملامح النقد الأدبي عند الخليفة عمر بن الخطاب





إعداد
عثمان إدريس كنكاوي
محاضر بقسم العربية، كلية التربية، إلورن، ولاية كوارا، نيجيريا

مقدمة:
أنصف المؤلفون عمر بن الخطاب رضي الله عنه-خليفة عظيما، فكتبوا عنه أسفارا متنوعة تبرز سياسته الفذة في حل المعضلات وتوجيه الأمور وصفاء السريرة كفعل السيوطي في تاريخ الخلفاء والأستاذ زكي علي سويم ومشاركيه في المطالعة الأزهرية(1)، ولم ينعزل عن هذا الشأن ذلك الخطيب العالمي الشيخ عبد الحميد كشك في بعض خطبه المنبرية الرائعة. والشيخ مناع خليل القطان في الحديث والثقافة الإسلامية(2). والأستاذ محمود عباس العقاد في العبقريات الإسلامية(3) وقال عنه شاعر النيل في شعره القصصي والأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم في "هدية جريدة صوت الأزهر"، ولكن الكثير منهم لم يتعرضوا إلى ما كان له رضي الله عنه من ذوق سليم في النقد العربي، ومكانته المرموقة في الأدب ونقده التي توحي وتنم عن موهبته الأدبية والنقدية وتفهم مراميه، إلا ما انتشر في أمهات كتب الأدب عقده دون أن يظفر بمن يجمع نظامه في سلك خاص، فكانوا بذلك غير عابئين بجوانب ما تعددت مواهبها، وتشبعت نواحيها لدى الخليفة عمر بن الخطاب في الصنع الأدبي ونقده، فأصبحت في ذمة النسيان والخمول.
لم يكن وراء هذه الورقة نقطة يسيرة من الغاية سوى تحريك أوتار قلوب حاضري المؤتمر السنوي الثالث لجمعية مدرسي اللغة العربية في كليات التربية والمعاهد المماثلة بنيجيريا وغيرها، على ما في آثار الخليفة عمر الفاروق بن الخطاب-رضي الله عنه-النقدية من صنيعة أدبية رائعة، وعملية نقدية موضوعة على الأساس الاجتماعي والفني والموازنة.
فجعلت هيكل الورقة ثلاثي المباحث قبلها مقدمة وبعدها خاتمة والمبحث الأول تمهيد وعرض سريع لدراسة أثر الإسلام في النقد الأدبي، والمبحث الثاني يوحي إلى معالجة ذاتية الخليفة عمر بن الخطاب وذوقه الأدبي، ويحتوي المبحث الثالث الذي هو حجر الزاوية لهذا البحث، على آثار الفاروق رضي الله عنه النقدية على الأساس الاجتماعي والفني والموازنة، والله ولي الهدي والتوفيق.


البحث الأول: أثر الإسلام في النقد الأدبي
بدأ النقد الأدبي في العصر الجاهلي متمشيا على الآراء والأحكام البسيطة المعتمدة على الذوق الفطري السليم والوجدان الشعري المرهف، وفيه شيء كثير من التعليل السليم والنظر السديد(4).
وجاء الإسلام بنظامه الجديد البديع ولم يفرط في الكتاب من شيء فتغيرت مفاهيم الأدب والنقد بالقيم الإسلامية التي أثرت تأثيرا بليغا في الصحابة والتابعين لهم، حتى أصبحت الآراء النقدية المطمورة تذكر وتشكر وتتجلى على ضوء الكتاب والسنة. وكان الإسلام مقياسا للنقد في هذا العصر الإسلامي مواكبة وانسجاما مع طبيعة الدين الجديد.
فمن ظلال هذه الناحية نتحقق ما للإسلام من آثار محمودة وإمدادات غير عكسية في تطعيم وتثقيف النقد الأدبي بكل ما يرجى له من التعديلات على ضوء الكتاب والسنة.
ثم توالت الحركات الأدبية المحبوبة في العصر الأموي، وتطايرت المعارك الأدبية، وساعدت في إيجاد الهجرة للنقد الأدبي. والنقد في الأموي مبني على الذوق المهذب، وعلى سلامة الطبع، ورفعته، والانصراف عن ذكر العلل والأسباب. فلعل النقد ومقاييسه واتجاهاته تبدو واضحة في العصر العباسي، ويظهر في عصرنا الحديث اتجاهان للنقد: فالأول مؤسس على مالنا من تراث نقدي قديم، والثاني مؤسس على التراث النقدي الحديث.وهنا يبدو لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناقدا واخترمته المنية وهو ناقد.
ولقد أثر الإسلام تأثيرا ملموسا لا يخاف عقباه في جوانب النقد الأدبي المختلفة اجتماعية، وفنية، وموازنة. فبهذا يمكن أن يضاف إلى الإسلام كل مقالة الخير التي ليست لها غاية في الإعراب عند الدراسة الأدبية والنقدية.
المبحث الثاني: ذاتية الخليفة عمر بن الخطاب وذوقه الأدبي
كان صاحبنا في هذه الورقة في سلك من هو في مجال النقد الأدبي وهو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي. أول من سمي أمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ من الهجرة، وأول من عاقب على الهجاء، وأول من اتخذ الديوان، وأول من قال: أطال الله بقاءك، وأول من قال: أيدك الله. وكان شديد الحب للشعر، الأمر الذي جعله أن يفترس في أصحابه فوجد عبد الله بن عباس يروي القصائد الجيدة وينتقد ما يعرض له من أبيات، فقربه واجتباه واصطفاه لنفسه خليلا. وكثيرا ما اختلى به الساعات الطويلة يتناشدان ويتطارحان. وكذلك كان الفاروق على علم تام بشعراء عصره يستطلع أخبارهم ويستفسر عن أحوالهم، وربما ذكر له شاعر فجعل يسأل عن معاشه وأوصافه الجسمية والخلقية، كأنه يريد أن يفهم شعره على ضوء حياته حتى يكون نقده له أو عليه نقدا موضوعيا.ومما يدل على ذوقه الأدبي ومكانته المرموقة ما قاله محمد بن سلام الجمحي في كتابه "طبقات فحول الشعراء". "ما عرض لابن الخطاب أمر إلا واستشهد فيه بالشعر". والذي يملك مثل هذه الأدبية من القوافي لابد أن يكون ذا ولوع بالمعاني الجيدة والأساليب الرائعة، فهو ينظر فيما يسمعه نظرة الباحث الناقد، ثم يحفظ ما يروقه ويعجبه مستشهدا به في موضعه مثنيا على صاحبه بما يستحق من تقدير.
ولعل أبلغ ما يؤيدنا في ذلك أن إسلامه قد هبط على قلبه عن طريق البلاغة القرآنية، إذ وفد على أخته ثائرا يهم أن يبطش بها حين أشرق عليها نور الإسلام، فهداه حسه الحسن إلى آيات رائعة من كتاب الله يؤخذ بها عقله المفكر، وينفعل به وجدانه الحساس، ويجد لها مذاقا خاصا يدفعه إلى الاستزادة حتى إذا لمس نورها في عقله، ووجد حلاوتها في قلبه ذهب من توه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سيد بلغاء العرب فأعلن إسلامه! وهكذا كان إيمان ابن الخطاب وليد سحر بياني يجمع إلى المنطق السديد نصاعة القول ويغزو العقل براهينه كما يعزو العاطفة بروعته ذات القوة والتأثير.
ولقد شاع في الناس حبه للشعر وتأثره به أيما تأثر، فعمد كثير من أصحاب الحاجات إلى عرض مطالبهم عليه في أسلوب شعري، فكان يردهم أحسن رد. كشأن أمية ابن حرثان حين أنشد:
لمل شيخان قد نشدا كلابا ** كتاب الله لو قيل الكتابا
فإنك وابتغاء الأجر بعدى ** كباعي الماء يتبّع السرابا
وكان لا يطوف في شارع أو زقاق ويسمع شعرا ينشد إلا وقف يستمع إليه حتى ينقطع الصوت.وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن استنشد من قبلك من شعراء قومك ما قيل الإسلام، فأرسل المغيرة إلى الأغلب العجلي فاستنشده فقال: أرجزا تريد أم قصيدا لقد سألت هينا موجودا. ثم أرسل إلى لبيد فقال له: إن شئت مما عفا الله عنه-يعني الجاهلية-فعلت-فقال: ألا تنشدني ما قلت في الإسلام، فانطلق لبيد فكتب سورة البقرة في صحيفة، فقال: أبدلني الله عز وجل هذه في الإسلام مكان الشعر، فكتب المغيرة إلى عمر: انتقص عطائي أن أطعتك فرد عليه خمسمائة وأمر عطاء لبيد على ألفين وخمسمائة(5).
ولعلنا عند الدراسة الأدبية الجدية لهذه العارضة نشم رائحة ما لعله ينفجر انفجارا عاطفيا في أعماق ضمائرنا من التساؤلات:- ما الغاية في جمعه رضي الله عنه للأشعار ولما ذا أجزل العطاء للبيد؟
ومن الغرائب العجيبة التي توحي إلى ألمعيته المتوقدة أنه سمع رضي الله عنه أعرابية تنشد:
فمنهن من تسقي بعذب مبرد ** تفاخ فتلكم عند ذلك قرت
ومنهن من تسقى بأخضر أجن ** أجاج ولولا خشية الله فرت
فعلم ما تريد الأعرابية، وبعث إلى زوجها فوجده متغير الفم فخيره بين خمسمائة، أو جارية من الفيء، على أن يطلق زوجته فاختار الدراهم وطلقها، وهذان البيتان لا يدرك مرماهما غير من له بصيرة عمر الفاروق وذكاؤه، ولو سمعهما غيره لظنهما شعرا ينشد وكفى، ولكن عمر بن الخطاب الأديب الناقد البصير يصل إلى مراد المرأة الأعرابية.
وروي من غير وجه أن عمر بن الخطاب خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة-وكان يفعل ذلك كثيرا-إذ مرّ بامرأة من نساء العرب مغلقا عليها بابها وهي تقول:
تطاول هذا الليل تسرى كواكبه ** وأرقني أن لا ضجيع ألا عبـه(6)
فو الله لولا الله تخشى موكلا ** لزحزح من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيبا موكلا ** بأنفسنا، لا يفتر الدهر كاتبــــه
وبت ألا هي غير بدع ملعن ** لطيف الحشا لا يحتويه مصاحبه
يلاعبني طورا وطورا كأنما ** يعاتبني في حبه وأعاتـــــــــــبه
مخافة ربي، والحياء يصدني ** وأكرم بعلي أن تنال مراتبه(7)
فسأل عنها فقيل: إن زوجها غائب في جيش القتال من عام، فذهب إلى ابنته رضي الله عنهما وسألها كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقال: مائة وعشرين ليلة. فأمر أن يمكث المتزوج أربعة أشهر ويستبدل به غيره، وكتب كذلك إلى عماله بالغزو أن لا يغيب أحد أكثر من أربعة أشهر. ومن خير القدر المحبوب للخليفة الفاروق أنه كان ممن يشار إليه ببنان الكرامة لنيله المجد الأدبي في الساحة الأدبية. ولعل السبب الجوهري لذلك أنه عاش أديبا وتوفي أديبا. وقد كان رضي الله عنه-يتمنى أن يموت شهيدا في مدينة رسول الله (ص) فقد ثبت في الصحيح أنه كان يقول في دعائه: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتا في بلد رسولك.
وكان طعنه في اليوم السادس والعشرين من ذي الحجة من السنة الثالثة والعشرين من الهجرة. ومات من هذه الطعنات فجهز ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة الأربع والعشرين مع رسول الله وخليفته أبي بكر بإذن من عائشة رضي الله عنها وعن أمهاتنا أمهات المؤمنين(8).
المبحث الثالث، آثار عمر بن الخطاب النقدية:
وللخليفة رضي الله نفاذ النظرة، وانتباه الذهن وسرعة الاستجابة للتأثيرات، والقدرة على رؤية الشيء كما هو في حقيقته، والتجرد من الميل إلى الهوى، أي من الغرض الشخصي، والتطرف الثقافي والسياسي في حكمه على الآثار الأدبية. وإن لم يكن له الإطلاع الواسع على حقائق العلم والمعارف الإنسانية من فلسفة، وتاريخ، وطبيعة، واجتماع، وعلم النفس البشرية.
ولقد أظهر سيدنا عمر بن الخطاب عبقريته النقدية وصدق عليه اسمه الفاروق فيما له من النوادر الأدبية التي توحي إلى الناس أن له قدما راسخة وطول الباع في تحريك فن النقد الأدبي في صدر الإسلام.
هذا، فإننا بإمعان النظر إلى آثاره-رضي الله عنه-النقدية نتحقق أن هذه الآثار والملامح النقدية تتجلى وتتمثل في ثلاثة أسس، الأساس الاجتماعي، والفني، والموازنة. ولنختلف إلى عرض هذه الأسس الثلاثية بالترتيب.
آثاره-رضي الله عنه-النقدية على الأساس الاجتماعي:
كان انتماء الخليفة الفاروق النقدي لأنصار الفن للحياة، والأدب للمجتمع، وهم القائلون: إن الأديب مواطن، على عاتقه واجبات يقوم بها كأحد أفراد المجتمع الإنساني، الإنسان والعالم، ويعمل على تقدم البشرية وخيرها، ويحدد موقفه من مشكلات قومه ووطنه. فإن إتقان الأديب لعلمه الأدبي لا يكفي، وإن كان ضروريا، وإنما يجب أن يكون واعيا لدوره في الحياة الإنسانية(9).
ومهما يكن من الأمر فإن سيدنا عمر كان لا يعجبه من الآداب سوى ما تشم فيها رائحة الخدمة الاجتماعية، والمعلوم أن النقد في صدر الإسلام يتجه اتجاه هذا الدين القيم (الإسلام) نورا ساطعا يهدم كل ما هو جاهلي اللون مظلم في شتى الحياة.
ولقد اقتفى عمر آثار الرسول (ص) في بناء نقده الأدبي على الأساس الاجتماعي ونراه يقدر ويستحسن كل ما يخدم المجتمع من الأعمال الأدبية ويستقبح منها ما يهدم المجتمع.ولعلك تكون معي مؤيدا أو مفندا عندما أطلعتك على بعض نوادره النقدية، فاستمع الآن لما يوحى.
كان من ملامح النقد الأدبي عنده في إصلاح المجتمع المحقق أنه رضي الله عنه-انتقم من النعمان بن عدي الذي كان من السابقين في الإسلام ممن كان في مهاجري الحبشة مع أبيه، ثم ولاه عمر على ميمسان من نواحي البصرة فقال في الخمر شعرا منه:
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ** ولا تسقني بالأصغر المتلثم
لعل أمير المؤمنين يسوئه ** تنادمنا في الجوسق المتـــــــــهدم
ولما سمع عمر هذا قال:نعم والله، إن ذلك يسوؤني، ثم عزله، فقدم النعمان إلى عمر معتذرا يقول: والله يا أمير المؤمنين ما صنعت شيئا مما بلغك أن قلته، ولكني كنت امرا شاعرا، فخضت فيما يخوض فيه الشعراء. فأبى عمر أن يستجيب له أو أن يقنع بما قال، وأقسم ألا يجعله على عمل ما عاش(10).
ولعل في هذه اللمحة اليسيرة كفاية القول في أنه رضي الله عنه-كان ينقد على نمط الترغيب عن الانحراف في السلوك والانهيار الاجتماعي حتى يكون الشاذون في مثل هذا المجتمع قلة قليلة.
وعلق عمر رضي الله عنه-على سحيم بن بني الحسحاس الذي كان من الشعراء، اشتراه أحد أعمال عثمان بن عفان رضي الله عنه ليرسله إليه، وكتب إليه أنه اشترى له غلاما حبشيا يقول الشعر. فما إن شبع حتى أخذ يتغزل في النساء غزلا فاحشا، أدّى به وبالناس إلى أن يحرقوه بالنار حتى مات. وكان عمر قد حذره من تماديه في فحش الغزل حين سمع قوله:
توسدني كفا وتثني بمعصم ** علي وتحوي رجلها من ورائيا.
فقال عمر معلقا عليه تعليقا نقديا مبنيا على أساس الإصلاح الاجتماعي (ويلك إنك مقتول)، وفي مثل هذه العبارة المنطوية فيها رأى الخليفة أنه لم يكن نقده للشاعر من ناحية فنية ولا من غيرها، وإنما تأتي شررها من الكيان الاجتماعي(11).
وحسبك أن الخطيئة كان يلقى منه-على سلاطة لسانه وقبح هجوه-كل تسامح محمود-قد حبسه عمر رضي الله عنه-حين هجا الزبرقان بن منذور جدر: فنظم عدة أبيات عاطفية يستميل بها قلبه ومنها:-
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ** زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ** فاغفر، عليك سلام الله يا عمر
فرق له عمر فأطلقه من سجنه وأعطاه دراهما كثيرة على ألا يتعرض لهجو المسلمين، ولربما من الجدير بنا أن نقطع خيوط الشكوك عن إيمان غيرنا أنه رضي الله عنه استغرق في عهده في الإسراف على الشعراء بل القصد الجوهري في تقديره للشعراء إنما يكون من باب إماتة مفسدات المجتمع ورفعه إلى المستوى الصالح.
ومما لا شك فيه أن عمر كان يتنكر بالليل لا لرهبة من الرعية، ولا لرغبة إلى ما بأيديهم من الثروات لكن ليعرف مجرى الأمور في البلاد رغبة الإصلاح الاجتماعي حسب النظام النبوي المخطط. ولقد استطاع عمر في الأعمال الأدبية شعرها قيلت في محضره أن يكب عليها انكباب الناقد البصير، ويستهوي منها ما يسهم في خدمة المجتمع كما يستهجن ما سواه. وكان يظهر افتنانه الفائق في تأويل بعض الأشعار لمقرضيها ردءا عما تغرسها من العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع.وفي حديثه مع النجاشي ما يشير إلى ذلك فقد كان بنو العجلان يفتخرون بهذا الاسم، لقصة كانت لصاحبه في تعجيل قرى الأضياف إلى أن هجاهم النجاشي فضجروا وسبوا به، واستعدوا عليه عمرفقالوا: يا أمير المؤمنين هجانا أبشع هجاء، فقال: ماذا قال؟ فأنشدوه:
إذا الله عاد أهل لؤم ورقة ** فعادى بني العجلان رهط بن مقبل
فقال عمر: إنما دعا عليكم ولعله لا يجاب، فقالوا إنه قال:
قبيلته لا يغدرون بذمة ** ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر: وما في ذلك؟ هذا أقل للزحام، قالوا إنه قال:
تعاق الكلاب الضاربات لحومهم ** وتألك من كعب بن عوف ونهل
فقال عمر كفى ضياعا من تأكل الكلاب لحمه، قالوا فإنه قال:
وما سمي العجلان إلا لقولهم ** خذ العقب واحلب أيها العبد وأعجل
فقال عمر: كلنا عبد وسيد القوم خادمهم. فهذه الأبيات كلها سب صريح وهجاء لا ذع كان عمر لا يخفى عليه ما تضمنته من الفتنة يمكن أن توقع العداوة والبغضاء في القبائل، وتسلب من المجتمع أمنه، ولكنه رضا الله عليه-يتجه بها نحو التأويل الأدبي تنعكس عليه مرآة نقده الأدبي على الأساس الاجتماعي وتنم على أنه باقة ألمعي في مضمار الأدب النقد(12).
وفيما تقدم-إن لم تخننا ذاكرتنا-أنه استقبح شعر أمية بن الصلت في رثاء قتلى بدر لميله إلى الباطل، وكما امتنع عن قضاء حاجة أبي شجرة بن الخنساء السلمي لهجوه المسلمين، والهجاء في ذاته ضلال إن لم يصحبه الحق والبرهان، ولي في هذا المعنى بيت شعري:
إن الهجاء ضلال و يل قائله ** إن لم يؤيده برهان وفرقان
وهذا لا يدل على أن عمر لا يستحسن شيئا من فن الهجاء الذي كان في العهد النبوي سلاحا للدفاع عن الإسلام والمسلمين.
يقول الدكتور عبد الحليم حفني في كتابه (الشعراء المخضرون) ومن التأثير النفسي للشعر ما عير عمر بن الخطاب رضي الله عنه-حين سمع هند بنت عتبة ترتجز ببعض الشعر بعد انتصار المشركين في أحد، شامتة في المسلمين، متشفية بقتل حمزة رضي الله عنه-وتمثيلها به-فقال:عمر بعد ذلك لحسان بن ثابت: لو سمعت يا ابن الفريعة ما تقول هند، ورأيت أشرها على صخرة ترتجزين. وتذكر ما صنعت بحمزة: قال حسان اسمعني بعض قولها أكفكموها، فأنشده عمر بعض ما قالت فهجاها حسان بشعر منه:
أشرت لكاع وكان عادتها ** لؤما إذا أشرت مع الكفر(13)
ولا يخفى على من له إلمام بالغ في تصفح الكتب الأدبية أنه رضي الله عنه-كان يستهجن شعر أبي محجن الثقفي الذي كان من أبرز فرسان العرب وشجعانهم، وكاد يكرر عليه الحد لقوله في الخمريات وشربها، ولقد قال حين جلد ذات مرة شعرا:
وإني لذو صبر وقد ما إخوتي ** وليست على الصبهاء يوما بصابر
وشأن عمر في هذا لم يكن لشيء سوى أنه يعتبره هو وشعره من الذين يفسدون ولا يصلحون في المجتمع الإنساني البشري.
ومن ديواني الشعري أقول:
والشعر في ذاته رهن لقائله ** يوم القيامة، قل ما شئت من شعر
آثاره رضي الله عنه-النقدية على الأساس الفني:
شاء القدر فأتاح لابن الخطاب أن كانت له الموافقات التعبيرية، ما قال الناس في شيء وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر، وكان أقربها للموافقة ما أخرجه ابن أبي خاتم عبد الرحمن بن أبي ليلي. أن يهوديا لقي عمر فقال: إن جبريل الذي يذكره صاحبكم (محمد) عدونا. وقال عمر: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائل فإن الله عدو للكافرين.
فنزلت الآية حسب تعبير عمر الكلامي.
وأخرج الشيخان عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلي، فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي) واجتمع نساء النبي عليه الصلاة والسلام في الغيرة فقلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك، وكما أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن أنس. قال: قال عمر: نزلت هذه الآية (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) ولما نزلت قلت أنا: فتبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت (فتبارك الله أحسن الخالقين)، وكذلك لما أكثر الرسول عليه الصلاة والسلام من الاستغفار لقوم قال عمر: سواء عليهم، فأنزل الله (سواء عليهم استغفرت لهم) (14).
والسر الحقيقي في إيرادنا لهذه الموافقات التعبيرية هو الإشارة العابرة عن مستوى أبي حفص الفني في التعبير الصحيح الذي كان يوافق العرض السماوي والوحي الأبدي، ولعل مكانته الشامخة في ملكة التعبير الفني هو العامل القوي المؤثر في بناء شخصية الخليفة الفاروق النقدية حتى سجلت له أمهات الكتب الأدبية بعض النوادر الأدبية والنقدية المبنية على الأساس الفني. وكلنا نعترف كل الاعتراف أن الكتاب والسنة كانا هما المرجع المعتمد والعون الوحيد في بناء وتزويد الخليفة الثاني واقتنائه هذه الموهبة المغبوطة الفائقة.
فأول ما يلاحظ في هذا الصدد هو ما أورده السيوطي في تاريخ الخلفاء يقول: (وأخرج ابن عساكر عن معاوية بن قرة قال: كان يكتب من أبي بكر خليفة رسول الله، ولما كان عمر بن الخطاب أرادوا أن يقولوا:خليفة خليفة رسول الله، قال عمر: هذا يطول: قالوا: لا، ولكنا أمرناك علينا، فأنت أميرنا، قال: نعم، أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فكتب أمير المؤمنين.
فمن الممكن أن نلاحظ أن هذا اللون النقدي يعمد كل الاعتماد على الأساس الفني حيث كان عمر يرمي سهام نقده الأدبي إلى الناس في تطويل التركيب الذي أطلق عليه البلاغيون الإطناب.
ومن هذا القبيل تحريم سيدنا عمر سحيم عبد الحساس جائزته لما ورد منه قوله:
عميرة ودع أن تجهزت غاديا ** كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال له عمر: لو كنت قدمت الإسلام على الشيب لأجزيتك(15).
وحقيقة أن عمر يصب عليه سوط عذاب النقد بحرمانه الجائزة بمجرد إفراطه في تقديم الجدير بالتأخير وبالعكس.
وكان عمر بن الخطاب شديد التعليق على التذوق النقدي فنرى النقاد من بعده قد أفاضوا في الحديث عن ملاحظاته إفاضات طويلة كانت لها عوائدها في الدراسات النقدية، ويرسمون لها الحدود ويناقشونها مناقشة المستنبطين من آرائه أراء.
وقد أفادتنا الكتب الأدبية أن عمر بن الخطاب قال لابن عباس رضي الله عنهما أنشدني لشاعر الشعراء، قلت يا أمير المؤمنين ومن هو؟ قال: ابن أبي سلمى، قلت وبم صار كذلك؟ قال لأنه لا يتبع حوشي الكلام، ولا يعاظل في المنطق ولا يقول إلا بما يعرف، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه. قيمة هذا الحكم لا يأتي من أنه صدر من خليفة المسلمين الذي يهابه الناس، وإنما أتى من جمال التفضيل ودقة النظر مما يدل على نظرة صاحبه النافذة، وبصيرته النقدية العادلة التي مكنت النقاد والبلاغيين من استنباط الأسس والمقاييس النقدية(16).
ولو أردنا أن نضع الحق في نصابه أمام الناس نتحقق أن في سالف القول ملاحظات-تسند إليه-نقدية جارية على الأساس الفني.
وقيل أن عمر قام مرة يصلي فوجد رجلا قصير القامة أعور متنكبا قوسا وبيده هرواة فقال له: أنت متمم بن نويرة؟ فقال نعم يا أمير المؤمنين، فقال: هكذا وصفت لي، فأنشدني مراثيك في مالك أخيك، فأخذ ينشده حتى وصل إلى قوله:
وكنا كندمانى حذيمة حقبة ** من الدهر حتى قيل: أن يتصدعا
ولما تفرقنا كأني ومالكا ** على طول وصل لم نبت ليلة معا
فقال عمر: والله هذا هو التأبين، ولوددت أن أحسن الشعر فأرثي أخي زيدا بمثل ما رثيت به أخاك، فقال متمم: لو أن أخي يا أمير المؤمنين-مات على ما مات عليه أخوك من الإيمان ما رثيته فقال عمر: (ما عزاني أحد من أخي بمثل ما عزاني به متمم).
ونحن لو نقشنا مراثي متمم هذا، ما وجدنا أحسن من البيتين اللذين وقف عندهما الفاروق، وفي ذلك الدليل القوي على سلامة ذوقه ودقة شعوره بمعاني الكلام وجماله الفني تلتاع لها العاطفة في أعماق سامعيه.
آثاره رضي الله عنه-النقدية على أساس الموازنة:
هذا، فإننا عند وضع الحقيقة ي نصابها نرى أن عملية الموازنة الأدبية ليست من استطاعة من لم يكن له حس نقدي أصيل مدرب في ممارسة الأعمال الأدبية والنقدية. ولا تتهيأ لأحد سوى من له حظ عظيم من التوفيق والإبداع.
وقد توغل عمر-رضي الله عنه-في غياهب هذا العمل النقدي، وأظهر فيه مهارته الفذة بالأساليب المرنة، ولعلك توافقني إذ قال عمر: يا ابن عباس، ألا تنشدني لشاعر الشعراء؟ قلت ومن شاعر الشعراء قال: زهير، فقلت لم صيرته كذلك؟ قال (لأنه لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتبع الوحشي، ولا يمدح أحد بغير ما هو فيه).
فعمر الفاروق يفضل زهيرا على من عداه مبينا أوجه التفضيل، وهي سنة وطريقة في النقد، إذ كان من قبل عمر من الرواة متى نقدوا شعرا قالوا إنه برود يمنية تطوى وتنشر، أو قالوا إنه سمط الدهر، أو قالوا إنه مزاد لا يقطر منه شيء، إلى آخر هذه التشبيهات المجملة التي لا تفصل حكما ولا تعلل رأيا. فجاء عمر في نقده على أساس الموازنة بالتفصيل الواضح والتعليل المقبول المحكم.
وليس من الغريب أن يخالف الفاروق ما أجمع عليه أكثر أئمة النقد في الأدب، فيفضل زهيرا على امرئ القيس حيثما يفضل الإمام على امرئ القيس على غيره. وهذا الاختلاف محمود يستحسنه النقد لأنه قائم على الرؤية الصحيحة بدون التقليد الأعمى. وعمر الفاروق كان يسير الشعر بعقله فلا يعجبه منه إلا ما جاء متمشيا مع المنطق السليم، فكان نبيل الغرض رائع الحكمة. وزهير حكيم قد يزن الأشياء بميزانها العاقل، فلا يفحش في غزله، ولا يتعابث في تصابيه بل يسوق الحكمة تلو الحكمة رائعة ساطعة تجذب إليها كل مفكر حصيف، أما امرئ القيس مثلا فلا نظن عمر يرضى عنه، وجل شعره في مغازلة الحسان، ومعاقرة الخمور، والاسترسال مع الصبوة إلى أبعد شوط، وهي أغراض لا يهش لها الحكماء من قادة الرأي كعمر بن الخطاب، سمع مرة قول زهير:
فإن الحق مقطعة ثلاث ** يمين أو نقار أو جلاء
فأخذ يحرك رأسه في عجب. ويقول في تبسم: إنما أراد أن يبين أن مقطع الحقوق يمين أو حكومة أو دية كما جاء به الإسلام.
هذا التدقيق المتواصل في شعر زهير جعل الفاروق يكرر إعجابه، ولا يتحدث عنه في حماسة وإيثار.
ودخل على عمر أحد أولاد هرم بن سنان ممدوح زهير فسأله من أنت؟ فقال أنا ابن هرم بن سنان فقال عمر: صاحب زهير قال: نعم، قال عمر: أما إنه كان يقول فيكم فيحسن؟ فقال الابن: كذلك كنا نعطي فنجزل، فتبسم عمر …… وقال قولته الصادقة: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم(17).
ولقد كان النابغة الذبياني يلي زهير في المنزلة لدى الفاروق، لأن النابغة أقرب إلى زهير منه إلى امرئ القيس، إذ كان متئد التفكير، شريف الغرض، وإعجاب عمر به يرجع إلى ما سمع من أبياته التي تنحو منحى زهير في المنطق والسداد. ولما لقي عمر بن الخطاب وفد غطفان فقال: أي شعرائكم الذي يقول:
حلفت ولم أترك لنفسك ريبة ** وليس وراء الله للمرء مذهب
فقالوا: النابغة، قال فمن القائل:
فإنك كالليل الذي هو مدر كي ** وإن خلت إن المنتأى عنك واسع
فقالوا: النابغة، فقال فمن القائل:
أتيتك عاريا خلقا ثيابي ** على وجل تظن به الظنون
فقالوا: النابغة، قال ذلك أشعر شعرائكم.
وإذن فزهير عنده شاعر الشعراء، أما النابغة فهو شاعر غطفان، وطبيعي أن يكون عمر مع هذا النظر الثاقب في الشعر قادرا على أن يزن الإنتاجات الأدبية بميزان الحق والبرهان.
الخاتمة:
لا شك أن غاية الإسلام في النقد هو أن يضع في بال الناقد القصد من الانتقاد، التوجيه إلى تدارك الخطأ تلاقي النقص لبناء ورسم القيم العليا للحياة من العلم والفن والأدب. فليس للنقد العشوائي ولانهياري والشيطاني مجال في مسرح النقد الإسلامي.
وكانت ذاتية سيدنا عمر الفاروق سعادة كبرى في تحريك فن النقد العربي في صدر الإسلام، وتطعيمه بآراء محكمة واتجاهات مثقفة أصبحت فيما بعد مرجعا نقديا معتمدا تذكر وتشكر, وتستنبط منها قواعد أساسية تتساجل بها أفواه أئمة النقد في أمهات كتبهم النقدية، أمثال محمد بن سلام الجمحي في "طبقات فحول الشعراء" وابن قتيبة في "الشعر والشعراء" والجاحظ في "البيان والتبيين"(18).
هذا، فإن كان الشأن النقدي عنده مبنيا على الاتجاه الديني الذي يجعله أن يكون اعتقادي النوع بعيدا عن الأهواء، ومتمشيا على الأساس الاجتماعي والفني والموازنة. ولعل منشأ ذلك يرجع إلى تأثره القوي بالإسلام الذي يتمثل في شتى مجالات الحياة.
ومن الحق أنه رضي الله عنه-ليس هو الوحيد من الصحابة الذين شاركوا وأفادوا في ميدان النقد الأدبي العربي.
وقد يكون غيري ومن له شأن في تتبع الآثار النقدية أن يفضل الفاروق على غيره من أعلام الصحابة والمجال في ذلك واسع.
وأكبر أملي في هذا البحث الأكاديمي المتواضع هو أن يقع في رضا المستمعين من البرافسة والدكاترة والحاضرين والحاضرات، وأن يلتقي بملاحظات حتى يتمكن البحث من التوسع إلى حد ما يقدم لدرجة الدكتوراه في المستقبل القريب الممكن.
وأقول:
لا أقصر القول عن شخص أعزّ به ** الله محمد والإسلام في الأمـم
ثاني الخليفة، في تعبيره الأدبي ** يوافق الله رب العلم والقــــلم
فابن الخطاب فريد في بلاغته ** ونقده جوهري النوع في الكــــلم
لعل في اللقب ما قد يشار به ** إلى انتقاداته في أعدل الحـــــكـم
والنقد لو لم يكن في شرعه الأزل ** لما توغل فيه "العمر" بالكــرم
قل إنه لشريف الحكم والغرض ** في الانتقاد على منهاج محتكم



الهوامش:
1- من منشورات مطبعة الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، 1993م. ص 122.
2- من منشورات وزارة المعارف، المملكة العربية السعودية. 1987. ط 6، ص 67.
3- ولعله من الإنصاف أن لا يميلنا عن كتابه انتقاد الشيخ الشعراوي له في بعض فتاويه اللغوية القيمة.
4- الدكتور صفاء خلوصي وآخرون، النقد الأدبي وموازين الشعر. (1974) ط 1 مطبعة الأزهر ص 19.
5- صحيفة العالم الإسلامي. مقالة بعنوان رسالة في الأدب الإسلامي. للأستاذ محمد الحسيني السحرتي، العدد 1667، 15 سبتنبر 2000م. ص 9.
6- مجلة الفرقان، العدد 136، 19 مارس 2001م. ص 22.
7- الدكتور البيومي، المرجع السابق، ص 57.
8- الحافظ جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء، دار الفكر، بيروت، لبنان، ص 135.
9- الدكتور محمد بكر إسماعيلي، رجال أحبهم الرسول وبشرهم بالجنة ،دار المنار، القاهرة ص 15-52.
10- الدكتور صفاء خلوصي وآخرون، المرجع السابق، ص 6 .
11- البروفيسور عبد الباقي شعيب أغاكا، أثر الإسلام في النقد العربي:
-مقالة نشرت في ندوة شعبة العربية بجامعة عثمان بن فودي، صكتو. 1985.
12- سيرة ابن هشام .3-284: اقتبسه الدكتور عبد الحليم حنفي في كتابه الشعراء المخضرمون.
13- نفس المرجع ،ص 80 .
14- الدكتور البيومي، المرجع السابق، ص 45-55.
15- الدكتور عبد الحليم حنفي، المرجع السابق، ص266 –267.
16- السيوطي، المرجع السابق، ص 114 –115.
17- الدكتور بدوي طبانة، دراسات في نقد الأدب العربي من الجاهلية إلى نهاية القرن الثالث الهجري، ص 76 .
18- أبو عثمان بن جحر، الحيوان، ص 328، ج 1، مصطفى بابا الحلبي تحقيق وشرح عبد السلام هارون.


















السبت، 19 سبتمبر 2009

تاريخ الإسلام والتعليم العربي في نيجيريا

تاريخ الإسلام والتعليم العربي في نيجيريا
1:2 موقع نيجيريا الجغرافي
الاسم الرسمي لنيجيريا هو جمهورية نيجيريا الاتحادية، وهى بلد علماني في غرب أفريقيا، وإحدى الأقطار الأربعة التي وقعت تحت الاستعمار البريطاني بل إحدى الأقطار العشرة ذات العدد الكبير في العالم.و الغالب بالعدد الكثير في القارة الإفريقية ولقد اتخذت نيجيريا حدها المكاني من المشرق ببلاد كاميرون، ومن المغرب بدولة ببين ومن الشمال بدولة نيجر. وكذلك المحيط الأطلسي من الجنوب.(1)
وتفيدنا المصادر التاريخية أن كلمة نيجيريا مشتقة من النيجير التي حرفت من نيغرو وهي في اللغة اللاتينية الزنجي الصغير والأسود القصير. وهي البلاد التي اصطلح عليها البر يطانيون باسم محمية ساحل نيجيريا (Niger Coast Protectorate) والبلاد الواقعة في حوض نهر نيجر (The territories in the Basin of the Niger) فتنطبق السمية على البلدان الواقعة دول بلاد نيغرو أو حول واد نيجر، حسب الفلسفة الاستعمارية البريطانية(2) .سكنها حسب إحصائيات عام 2004م، ما يزيد على (12088703) و في عام 2006م مائتين وخمسين مليون، وفي احصـائيات 2009م،بلغ 149،229،090. من رجال ونساء صغار وكبار.وبلغت النسبة المئوية للذين يعرفون القراءة والكتابة 68 .
وهي منطقة من المناطق الواقعة في غرب القارة الإفريقية ،بلغت مساحتها (356670) ميلاً مربعا، مما جعلها تعادل تقريبا مساحة غانة أربع مرات، ومساحة سيرالون ثلاث مرات ،ومساحة غامبيا تسع وثمانين مرة،ومساحة كلفونيا مرتين. ولها توزع على طول شمال جنوبي بمقدار ستمائة وخمسين (650) ميلا وفى العرض الشرقي الغربي سبعمائة وخمسين(750) ميلا واستطاعت أن تجمع في طياتها أكثر من ربع الشعوب الإفريقية،(3) . و تقع نيجيريا على الرابعة والرابعة العشرة درجة بين خط الاستواء(4).وهطول الأمطار فصلى ،تتساقط بالغزيرة الكثرة في جهات الجنوب الشرقي بينما تنزل باليسار والبساطة في جهات الشمال البعيد،نتيجة مدار السرطان التي كانت واقعة وقوعا كلياً في المناطق الحارة(5).والمناخ فيها متغير وهو الجنوب استوائي وفي الوسط مداري وفي الشمال يابس.ومناطقها المنخفضة في الجنوب مندمجة إلي الجبال الوسطية والسهل المرتفع وفي الجنوب الشرقي جبلية وفي الشمال منبسطة. وكان العرب يطلقون عليها كلمة (السودان) و(بلاد التكرور) وأرادوا بهما أصحاب البشرة السوداء بصفة عامة. ويشمل هذا الاصطلاح جغرافيًا ما عرف لذي المؤرخين باسم الحزام السوداني الممتد من قلب القارة الإفريقية من الشرق إلى الغرب. وهو الاسم الشائع لسكان غرب أفريقية في الحرمين ومصر والحبشة(6)
وفي مطلع القرن العشرين استطاع الحكم البريطاني أن يطلق اسم نيجيريا على هذه المنطقة وأرادبها جميع البلاد التي تقع حول نهر نيجيريا(7). وهي ذات الأديان الثلاثة وهي دين الإسلام والمسيحية والوثنية. فأول دين ظهر على وجه أراضي نيجيريا وهو دين الأصنام ثم جاء بعده الإسلام عن طريق شمال غرب إفريقيا إلى غربها ومن غربها إلى ما يســـمى بنيجيريا اليوم(8).وبلغ عدد المسلمين خمسين والمسيحيين أربعين واللادينيين عشرة في المائة. ذلك كانت الحياة الدينية في نيجيريا تتجاذب بعضها بعضا وتسرق الأضواء. فالمتأكد أن شعبا أو أمة ذات الأديان واللغات واللهجات والتقاليد والعادات الكثيرة لا تكاد تسلم من إراقة ماء الوجوه والضرر والضرار،ولم تكن هذه الأمور السلبية تقدح في وحدتها ولا في دولتها الديمقراطية. الديمقراطية هي النظام السياسي المستقر الآن، فقد سبقها أيام في هذه البلاد حيث تتداول الدولة بين النظام الديمقراطي والعسكري وذلك بالمعونة من الأمريكان ورجال الدولة في نيجيريا(9). ولها في النظام القانوني القانون الإنجليزي المألوف والقانون التقليدي والشريعة الإسلامية فيما لاتقل عن اثني عشر ولاية في الشمال النيجيري.
ونيجيريا من الناحية الاقتصادية دولة غنية ذات المعادن الطبيعية الكثيرة منها الغاز الطبيعي والبنزيل والقصدير والحديد التبري والفحم الحجري وحجر الكلس والرصاص والزنك والأرض الصالحة للزراعة، وهـي في المرتبة الرابعة بين الدول العالمية التي تصدر البترول إلى ولايات أميركا المتحدة وفى المنزلة السادسة في منظمة الدول العالمية المصدرة للبترول في عام 2000م . وهى في القرن التاسع عشر وما قبله كانت البضائع التي تركزت عليها هي الفلفل وكولا والفستق والكاجو مع تلك الغابات الكثيفة التي تستفاد من أخشابها ومحط الرجاء والكعبة التي يطوف حولها الأفارقة غربها وشمالها، ولم يزل ربوع العالم يتطلع عليها لما فيها من الأرزاق والآثار العجيبة والحظوظ التي جعلتها في القارة الأفريقية قبلة مقدسة وملجأ الاستعانة والاستغاثة. (10) وتتمتع هذه الدولة بكثرة القبائل التي تبلغ مائتين وخمسين قبيلة، أشهرها قبائل يوربا وقبائل هوسا وقبائل إيبو إضافة إلى بعض قبائل أخرى ليس لها شهرة كالقبائل الثلاثة المذكورة مثل فلاني وبربر ونوفي وغيرها. فالنسبة المئوية لقبيلة هَوُسَا وفُلَانِي 29 و21 ليَوْرُبَا و18 لِإيبَوْ و10 لِإجَوْ و4 لكَنُورِ ولِإبَيبَوْ 3.5 ولتِيفِي 2.5 .
فهي الآن في التقسيم السياسي لبلدانها مقسمة إلى ما تتراوح ستة وثلاثين ولاية، عاصمتها أبوجا، تحت رئاسة الحاج عمر موسي يَارَدُعَا
2:2 دخول الإسلام إلى نيجيريا
كان الإسلام دينا سماويا عالميًا ارتضى الله به ويدين به الأنبياء والمرسلون قبل نزول القرآن الكريم الذي أنزله الله بواسطة جبريل من جمل واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وذلك إن سيدنا إبراهيم وغيره من الأنبياء سمو قومهم بمسلمين في مثل قوله تعالى:
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى
والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون(11)
فكما كان القرآن سببا لا ينكره القريب والبعيد لوجود الإسلام في قارة آسيا بل في الجزيرة العربية ببركة ما ينزل به جبريل بإذن ربه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات حسب الوقائع والقرائن في مدة ثلاث وعشرين سنة. فبدأ انتشار الإسلام من مكة إلى المدينة وأرجاءها وإلى جميع العالم اليوم.
تفيدنا المصادر التاريخية أن أولية دخول الإسلام إلى القارة الأفريقية ترجع إلى تلك الهجرة الأولى التي قام به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تستنير المدينة المنورة بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك حين وجه سيد الخلق أصحابه ببطن مكة في فجر الإسلام أن يهاجروا إلى الحبشة التي كانت منطقة من المناطق الإفريقية(12) وثبت في كتاب أسد الغابة لابن الأثير أن هذه الهجرة تكررت مرتين في حياة الدعوة الإسلامية فهؤلاء مهاجرة الحبشة هم السابقون الأولون إلى الإسلام كما كان النجاشي وقومه أسبق الناس إلى الإسلام في القارة الإفريقية بدليل إسلام النجاشي وقومه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم(13) والحبشة بالإطلاق أفضل أجناس السودان وخصيان الملوك الأكابر منهم، وهم نصارى وفيهم بالساحل مسلمون(14) ولقد أشار الشيخ القزويني إلى جغرافية الحبشة وإسلام أهلها بقوله:
هي أرض واسعة شمالها الخليج البربري وجنوبها البر وشرقها
الزنج وغربها البجة. الحر بها شديد جدًا وسواد لونهم لشدة
الاحتراق وأكثر أهلها نصارى والمسلمون فيها قليل، وهم من
أكثر الناس عددًا وأطولهم أرضا، لكن بلادهم قليلة وأكثر
أرضهم صحارى لعدم الماء وقلة الأمطار.(15)
فثبت في المراجع التاريخية أن بلاد الحبشة كانت من السودان بالإطلاق العام في العهد الإسلامي وإليه يشير الشيخ ابن كثير في كتابه: تعريف بالأعلام الواردة في البداية والنهاية حيث قال:
السودان: يطلق هذا الاسم بصورة عامة في العهد الإسلامي
على بلاد إفريقية جنوبي الصحراء الكبرى ما بين بلاد مالي
حتى الحبشة. وقد اختصت بهذا الاسم في العصر الحديث
جمهورية السودان الواقعة جنوبي جهورية مصر.
ولعلنا بهذه الاستطراد التاريخي تمكن القول بأولية هبوط الإسلام في الحبشة التي تعتبر قطرًا من الأقطار الإفريقية الشمالية، فمنها انشر الإسلام إلى ما جاورها من البلدان مثل الشام ومصر في عهد عمر بن الخطاب حين ولي عمر بن العاص على هذين البلدين ثم زاد انتشاره عند توليته رضي الله عنه ذلك الصحابي الجليل عقبة بن نافع على شمال أفريقيا وفتحها وأسس بها مدينة القيروان وجعلها مركزًا لانطلاق دعوته وترك بها جالية عربية إسلامية وكان لا ترتعد فرائض هذا الصحابي الجليل في عهد يزيد بن معاوية يحمل لواء الدعوة نحو بلاد السوس حيث أسلم قبائل المصامدة واستمرت به الحال حتى انتهي إلى البحر المحيط الأطلسي كما سار نحو الجنوب حتى صادف قبائل صنهاجة وأسلموا على يديه. وما استكان حتى دخل طنجة ونزل بأطراف بلاد السودان بعد دخوله بلاد غانة وتكرور، قدر الله إسلام بعضهم على يديه رضي الله عنه ولما طرق كل الأبواب وانتهي إلى البحر المحيط وأقحم فرسه فيه حتى بلغ نحره قال قولته المشهورة:
اللهم إني أشهد أن لا مجاز ولو وجدت مجازا لجزت
ثم انصرف راجعًا واغتاله بعض البرابرة. فالصحابي الجليل عقبة بن نافع باعتبار هذه السلسلة التاريخية المتواترة، أول من أدخل الإسلام إلى غرب إفريقيا وزعيم إسلامي استشهد في سبيل الله(16)
أما دخول الإسلام إلى ما يصدق عليها اسم نيجيريا اليوم، يعود إلى دخوله إلى مملكة برنو، وكانم التي قامت على التعاقب حول بحيرة شاد والتي اكتسحت بلاد هوسا جنوبًا والتي اتخذت برنو عاصمتها في أيامها الخالية عن طريق مصر وشمال إفريقية منذ القرن الخامس الهجري والحادي عشر الميلادي(17) وكان أول معتنق الإسلام فيها (السلطان أومى جلمي) الملك الثاني عشر في عداد ملوكهم قبل الإسلام وكان حكمه في الفترة ما بين عامي (479-490هـ-1085-1097م)، على يد محمد بن ماني الذي استطاع إقناع السلطان بالدخول في الإسلام بعد قدومه إلى البلاد خمسة أعوام.(18)
وصحت حسب المصادر التاريخية نسبة إدخال الإسلام في بلاد هوسا إلى ذلك الرجل العربي المسلم (هوذة أبو زيد) الذي فرّ عن اغتيال الدولة العباسية التي كان تتبع آثاره إذ هو من بقايا بني أمية المشردين بقيام دولة بني العباسي السفاح(19). وكانت مدينة كشنه أسبق بلاد هوسا إلى ميدان الحضارة والعمران لما تتمتع بها من وقوعها على طريق القوافل المارة من تمبكتو إلى برنو ومصر وفيها سوق كبيرة يحضرها البرابرة والونا غرة والعرب، أواسط القرن الثاني عشر الميلادي. فالمشهور هو أن أهلها هم السابقون الأولون إلى الإسلام في بلاد هوسا فمنهم انتشر الإسلام إلى مدينة كنو في القرن الثالث عشر الميلادي. وهذا لا ينافي ما ذهب إليه بعض المؤرخين في نسبة أولية الإسلام إلى أهل كنو الذين عرفوا الإسلام على أيدي الونا غرة الذين نزحوا من مدينة كشنه كما عرف الونا غرة الإسلام على أيدي العرب والبرابرة، لما قد أشار إليه الإلوري حيث قال:
والواضح أنها (أي مدينة كنو) صارت بلاد إسلامية
في القرن الخامس، بعد أن كان الإسلام ينتشر بالتدريج قبل
ذلك بزمن، إذ لم يكن هناك فتح أو استيلاء لأحد عليهم
وعلمنا بذلك أن وقت انتشاره وذيوعه غير وقت
دخوله واعتناقه.(20)
ثم انتشر الإسلام من شمال نيجيريا إلى جنوبها فالحقيقة إن الإسلام لم يظفر في فجره في بلاد يوربا بمن يقوم بمعنوياته في جمع بين الدعوة والجهاد في سبيل الإسلام كما في بلاد غانا ومالي وهوسا. فسبب ضعفًا في انتشاره وبطئًا في ذيوعه على أيدي التجار المتجولين الدعاة المجهولين وكانوا يستخدمون المناهج الدعوية الميسرة في دعوتهم إلى الإسلام حسب طبيعة الحال.
وإنما يعود تاريخ الإسلام إلى بلاد يوربا في القرن الثالث عشر الميلادي، في عهد المنساموسى سلطان مالي، إذ كانت هناك علاقة تجارية بين العرب وشمال إفريقيا وثبت في تاريخ يوربا أن أهل مدينة أويولى عرفوا الملح من أيدي البيضان (العرب) ولما وقع الاحتكاك التجاري بين اليوربا وبين الملويين ورأوا منهم دينًا جديدًا غير دينهم نسبوه إلى أصحابه فقالوا معبرين عن الإسلام. دين مالي أيسن مالي(21)
هذا، فإن الفضل يرجع في انتشار الإسلام في القارة الإفريقية غربها وشمالها إلى ثلاثة أصناف من البشر. أولهم الغزاة الفاتحون المسلمون الذين عملوا على نشر الإسلام وتوطيد السبل وتمهيد الطرق بفتوحاتهم أمثال عقبة بن نافع الصحابي وقومه والأدارسة والمرابطين والموحدين والحفصيين والملاويين والونا غرة والسنغاليين والفلانيين والبرناويين. وثانيهم وهم التجار المتجولون المسلمون الذين كانوا يضربون على الأرض ناقلين البضائع والسلع التجارية من مكان إلى مكان آخر، أمثال الفينيقيين والقرطاحيين والرومان والعرب. وثالثهم وهم الدعاة الصوفيون الذين جمعوا بين الشريعة والحقيقة فكانت رابطة روحية وروضة نفسية بل رياضة تعبدية تسمو إلى النماء الروحي بالملأ الأعلى. أمثال الطريقة القادرية التي دخلت إلى نيجيريا على يد مؤسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني لما اجتاز ببلد (قورانمودا)Kaura-Namuda) التي تكون اليوم من البلدان الواقعة في ولاية زمفرا.(22) عند سياحته. ومن بين هذه الطرق الطريقة التجانية التي انتشرت انتشارا هائلاً بين قبائل نيجيريا اليوم وكثر فيها الأدعياء. والطريقة السنوسية التي لم تظفر بمقدار ما ظفرت به أختاها من الانتشار والذيوع.
3:2 حركة التعليم العربي في نيجيريا.
اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ولسان التنزيل وأساس الإسلام وترجمان عباداته ومفتاح نور السنة المطهرة ووشيجة القربى بين مسلمي مشارق الأرض ومغاربها وهي اللغة الثرية ذات القابلية العجيبة للتطور وهي الوعاء الأمين للتراث الإسلامي والعربي، ولقد وصفها البروفيسور (هانرى باستيد)، يقول:
إنها أي اللغة العربية أكثر لغات الوجود روحانية،
وحتى أن بعض القسيسين في بيروت يخططون الآن بجد
لاحتلالها محل اللاتينية في مجال تثقيف الشبيبة
وتربيتهم الروحية.(23)
وعلى مدى توالي عصور التاريخ الأدبي فإن اللغة العربية لم تفتح العين على مثلها بفصل ما لعبته من الأدوار المهمة في تاريخ الإنسانية، وما اكتسبته من الخلفيات الثقافية المتباينة والحضارات المشرقة الجوانب وهي على جناح سفر عظيم في تاريخ قدرتها ونضجها على التعبير عن جميع متطلبات المجتمع البشرى من تدوين الدواوين وتنظيم الحكومة وسياسة الملك ومقتضيات الحضارة من أداة وطعام وزينة(24) وهي لا تمشى برجل من أبي واستطاعت أن تلعب دورها الريادي في العلوم التي هي الدعامة الأولى للنهضة الحديثة في أوربا، ولقد اعترف على ذلك المجد المؤرخ الكبير "فيليب في بعض فرائده حيث قال:
فيما بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر الميلادي، فإن كثيرًا
من المؤلفات الفلسفية والطبية والتاريخية والفلكية والدينية"
والجغرافية كانت مكتوبة باللغة العربية، ولا تزال
لغات أوربا تحمل ألفاظا عربية مقترضة(25).
ليس الإسلام هو السبب في وجود العربية على شبه جزيرة العرب بل هو العامل القوي والحجر الأساسي في انتشارها والإقبال على تعلمها وتعليمها، وهذا هو سر تعلق المسلمين بها وتفانيهم في محبتها ومحاولة خدمتها لاسيما أولئك الذين من الله عليهم بالإيمان بها وإسلام وجوههم لها من غير العرب في إفريقيا وآسيا، أمثال الشيخ الشيرازي والسندى والحلبي والزنجاني والجبرتي والأفغاني والأشموني والقلقشندى والصقلي والقيرواني والمراكشي والضهاجى والقرطبي والفيروزابادى والبخاري والفودي والألو ري. فكأنهم افتطنوا إلى ما في عمق الارتباط العضوي بين الإسلام واللغة العربية في مثل ما رواه الحافظ من عساكر الدمشقي قال: جاء قيس بن مطاطية (وهو يهودي) إلى حلقة، فيها سلمان الفارسي ومهيب الرومي وبلال الحبشي فقال: "هؤلاء الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا، (يعني النبي صلى الله عليه وسلم). فما بال هذا وهذا؟ (مشيرًا إلى غير العرب من الجالسين) فقام إليه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فأخذ جلابيبه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقاله. فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا يجرّ رداءه حتى أتى إلى المسجد، ثم نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم قائلاً: يا أيها الناس، إن الرب واحد، وإن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمنّ تكلم بالعربية فهو عربي"(26)
فالعربية إذن لغة القرآن والإسلام تجب أن تتحرر من الإقليمية والعنصرية الضيقة لتصبح أداة التفاهم بين المسلمين على اختلاف أجناسهم بل لغة التخاطب في الشئون الدبلوماسية والتجارية والسياسية.
وعلى أساس المناقشة فإن اللغة العربية في شمال إفريقيا لغة قديمة العهد عامل في انتشارها العلاقة التجارية التي بدأت في القرن السابع الميلادي وازدهرت بعد القرن الحادي عشر. والدعوة الإسلامية التي كانت ببركة مهاجرة الحبشة ذلك أن العربية موجودة في جميع أنحاء إفريقيا بدون استثناء والشعوب المسلمة فيها يحيون العربية ويهتمون بها على ما بينهم من تفاوت لا يصعب تفسيره. ويلاحظ أن العربية دخلت أفريقيا قبل أن تستنير المدينة بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك حين وجّه سيد الخلق أصحابه ببطن مكة في فخر الإسلام، أن يهاجروا إلى الحبشة التي كانت من الأقطار الإفريقية. ثم أنشرت منها إلى إرجاء الإفريقية الغربية وكانت اللغة العربية فيها لغة كلاسيكية وذلك لإسهاماتها المميزة في فهم تاريخ الغرب الإفريقي وثقافته المتعددة(27) ولقد أشار "ديفدسن" إلى ذلك الإنجاز الأكبر الذي قامت به اللغة العربية في الانفتاح على التراث التاريخي الإفريقي الغربي حيث قال:
إن وهب بن منبه هو أول من دون تاريخ منطقة جنوب
الصحراء سنة 738م باللغة العربية، مما يدل على ارتباط
تاريخ أفريقيا جنوب الصحراء باللغة العربية(28)
فالمعروف إن اللغة العربية تحتل بكل مكان احتل به الإسلام فكان هو السب الرئيسي والحجر الأساسي في نشأة اللغة العربية في كثير المناطق غير الناطقة بالعربية مثل نيجيريا. وأنا بالذات لست مع الدكتور أحمد شيخو غلادنتثي في إثبات العلاقة التجارية كالحجر الأساسي للغة العربية في أفريقية حيث قال:
فهذه العلاقة التجارية إذن هي التي وضعت
الحجر الأساسي للعربية في أفريقية.(29)
كما أنا لست شبعانا ولا مرتاح القلب بطريقة سار عليها الدكتور حمزة إشولا عبد الرحيم(30) في نقد رأي غلادنتثي بقوله:
وكما أسلفنا فإن التعليم العربي في الدول الناطقة
بغير العربية دائما يكون راجعًا إلى سبب ديني، لكن
غلادنتش يرى أن السبب تجاري، حيث أوجبت
المعاملات التجارية بين شمال إفريقيا وسكان جنوب
الصحراء وجود لغة التعامل بين الشعبين.(31)
ولعله لا يهتدي إلى ما في قول الدكتور حمزة من الانتقاد البارد لرأى الدكتور غلادنتثي، إلا من نوّر الله بصيرته لما في القول من المراودة في النقد وذلك أنه جزم القول في إرجاع نشأة العربية إلى الدين في الدول الناطقة بغير العربية بقوله: "دائما". ثم رمز إلى عدم موافقته مع الدكتور غلانتثي في نسبة السبب في كتابة الدكتور حمزة اسم الدكتور أحمد شيخو غلادنتثى خلاف الطريقة المألوفة لدى الناس، لأن الدكتور المنقود يكتب غلادنتثى والدكتور الناقد كتب غلادنتش، ليطمئن القارئ على مخالفته في هذا الرأي. فظهر في قوله أنه يشك في رأى غلادنتثى لكنه لم يأت بالدليل ولا البديل.
وأنا أقول أن السبب في نشأة العربية في المناطق العجمية دائما يكون دينيًا وذلك أن التجار العرب الذين نزحوا من بلادهم وجاءوا إلى إفريقيا، اتخذوا الدعوة الدينية غرضا والتجارة وسيلة. وهناك فرق بين الغرض والوسيلة والدليل على ذلك هو مهاجرة الحبشة الذين جاءوا الإفريقية للغرض الديني دون سواه. وانتشار اللغة العربية مع سبقها لغيرها من اللغات الأجنبية دليل على أن الدين هو الغرض الأساسي في سياحتهم والتجارة وسلبية لأن القينيقيين والقرطاجنيين والرومان هم الأولون في فتح طرق التجارة والسياسة بين بلادهم وبين قبائل الزنوج.(32) وليس في الإفريقية وجود اللغة الفينيقية والقرطاجنية والرومية، لماذا؟ لأنهم جاءوا إليها لغرض التجارة ولما اخترمت التجارة اخترمت معها هذه اللغات بخلاف العربية التي كانت موجودة ومنتشرة في جميع أنحاء أفريقيا بدون استثناء والشعوب المسلمة فيها يشق الأنفس يحيون العربية ويهتمون بتعليمها.(33) ولعله من الصواب في هذا الصدد أن نقول أن الدين هو السب الرئيسي والحجر الأساسي في دخول اللغة العربية ونشأنها في الإفريقية غربها وشمالها، وأن التجارة هي العامل عبر العصور في انتشارها في هذه القارة.
وأما دخول اللغة العربية إلى نيجيريا فيرجع إلى وقت الإسلام فيها منذ أوائل القرن الأول الهجري، وحيثما تمكن الإسلام من الحكم صارت العربية لغة الدولة ولغة الكتابة والقراءة ولغة التعليم والتربية ولغة التاريخ والتشريع.(34) ولقد تبرهن على هذه الظاهرة ما حدث في أيام تلك الممالك العربية الإسلامية التي قامت في غرب إفريقيا مثل مملكة غانة ومالي وسنغاي وبرنو وكانم. وهي من حيث اعتبار دخولها لغة كانت لم تزل كلمح تلوح فولجت من شمال إفريقيا إلى برنو عن طريق مصر ثم إلى كاشنه وكنو وصكتو ومنها انتشرت إلى جنوب نيجيريا بجهود بعض العلماء البرناويين الذين حملوا لواء الدعوة الإسلامية إلى الجنوب. كما انتشرت هذه اللغة ببركة التوجيه الدعوى الذي أشاد به الشيخ عثمان الفودي بقيادة الشيخ صالح (عالم) بن جنتى فأسس دولة إسلامية بمدينة إلورن التي هي همزة الوصل بين شمال نيجيريا وجنوبها في الدعوة الإسلامية والتعليم العربي بل هي الملتقى الدين والمنتدى الإسلامي الذي يستمد منه الجنوب هداه الإسلامي.(35)
ولعله، ليس من النفاق المستتر ما ذهب إليه بعض رجال الفكر العربي في هذه الديار من إن اللغة العربية في نيجيريا لغة محلية بدليل وجود جالية عربية مسلمة (شوا العرب) يتكلمون باللغة العربية ويتفاهمون بها في الأسواق وهم شعوب نيجيريون سكنوا في انغالا، ميدوغوري، ولاية برنوا، ولقد افتطنت الحكومة النيجيرية إلى هذه الحقيقة فبنت فيها قرية اللغة العربية، عام 1992م لكنها لم تعترف بقيمتها فخانتها بالإهمال. فالعربية في نيجيريا اليوم لم تزل لغة الدين والتدريس والكتابة بين المهتمين بها على رغم طغيان الدولة واشتداد أعاصير الظلام عليها بالحروب التوسعية المعادية ورغم البدع الفاشية في تفكيك مناهجها التربوية. فتشاهد اليوم في كثير من المدن الرئيسية النيجيرية مدارس عربية على مراحل ابتدائية وإعدادية وثانوية وعالية جامعية مستقلة (أي خاصة بتدريس اللغة العربية وحدها) مثل دهاليز العلماء في شمال نيجيريا ومركز التعليم العربي في لاغوس ودار العلوم لجبهة العلماء في مدينة إلورن كلها في جنوب نيجيريا.(36)
ومدارس أخرى تجمع بين التعليم العربي والإنجليزي مثل المدارس العربية الحكومية والأهلية في شمال نيجيريا مثل كلية أبوبكر غومي للدراسات العربية والإسلامية وغيرها والمعاهد الأدبية للشيخ كمال الدين الأدبي في إلورن والمعهد النيجيري في إبادن في جنوب نيجيريا. إضافة ما تتمنع بها العربية في بعض جامعات نيجيريا وللعربية مقامة الاحترام في جميع الجامعات الشمالية النيجيرية وفي بعض الجامعات الجنوبية النيجيرية مثل جامعة لاغوس وابادن إلورن وغيرها.
ولقد بارك الله في النهضة العربية في نيجيريا ببركة ما فيها من العوامل المساعدة في تطوير العربية منها، المدارس العربية والمكتبات العربية والمطابع العربية التي صيرت المجلدات من الكتب تقنتي بثمن بخس دراهم معدودة، ومنها مجاورة نيجيريا لبعض الأقطار العربية مما جعلنا نستمع إلى البرمجة العربية في الإذاعة العربية بالإضافة إلى البعثات التعليمية الذين نأخذ منهم العربية مباشرة في الجامعات والمعاهد الكبرى.
4:2 حركة التعليم العربي في بلاد يوربا
لقد استعرض الباحث عضلاته في إفراد القول وتفصيل المبحث لهذا الموضوع لشدة رغبته في بناء دراسته على أساس علمي يحسن انتقاؤه بدقة وروية وتأمل الخطى المنهجية. لأن محاور دراستنا وقبلة أنظارنا تدور حول البيئة اليورباوية التي كانت هي الميقات المكاني الرئيسي للزمرة المؤمنين (أصحاب العمائم الكبيرة في نيجيريا وإن كان لهم ذكر لا بأس به في غير بلاد يوربا.
احتلت جغرافية بلاد يوربا في غرب إفريقيا، وتمتد من حدود جنوب نهر النيجر شمالا وشرقا وإلى المحيط الأطلسى جنوبا وحدود الداهومي غربًا(37) وتجد في الجنوب الشرقي قبيلة أَيْدَوْ وفي الجنوب الغربي ترى شعب (غى) أمثال أبغن، وفن، وأورى. وفي الشمال الغربي قبيلة برغو المشهور ببربا ويورغلوا. وفي الشمال قبائل نوفي أما الشمال الشرقي قد اتخذتها قبيلة إغالا مسكنًا، ومن لف لفهم. ولقد انتشرت القبائل اليورباوية في الإفريقية وخارجها نتيجة تجارة العبيد والامتداد الثقافي مثل جمهورية بينين (دهومي سابقًا) وبلاد توغو وسيراليون وبرازيل وكبا وكوئتاريكو وترناد وتوبغو. وتوجد قرية يورباوية اليوم في أميركا، تدعى قرية أَوْيَوْتُنْجِي الإفريقية لها ملكها اسمه أَسِيجَمَنْ أَدَيْتُنْجِي الأول (38)
وفي القديم تعرف يوربا في بلاد كوبا بعدة أسماء منها أَوْلُكَامِي ولُكُومِي المنحرف من كلمة (Olukumi) بمعنى صديقي الحميم كما عرفت باسم أكو (Aku) المشتق من تحيتها اليوباوية وبهذا الاسم تسمى به في سيراليون.(39)
وإنما يعود تاريخ دخول العربية إلى بلاد يوريا، على وقت دخول الإسلام فيها. فكانت اللغة العربية هي الوسيلة في ضبط تاريخ البلاد اليورباوية وتدوينه، إذ دون أول دون من تاريخ بلاد يوربا باللغات المحلية المكتوبة بالحروف العربية وقد اعترف بذلك الأسقف جونسن في كتابة "تاريخ اليوربا" أن اليوربا قبل وصول الإنجليز سجلوا أفكارهم بالحروف العربية.(40) وكانت اللغة العربية رسمية في بعض البلاد المحلية في بلاد يوربا(41) ولقد رجع الشيخ الإلوري أصلهم إلى يعرب بن قحطان واستدل على صحة قوله ما يوجد لدى يوربا من آثار الفن الفرعوني من المسلة الحجرية وتمثال الرؤوس المصورة من الحزف وبعضها من النحاس وبعضها من الحجارة ومنها تلك الكتابات الهيروغليفية وطريقة التقبير وتدفين موتاهم ونحو ذلك مما يثبت العلاقة بين سكان أليفي الذي هو الميقات الأصلي لليوربا وبين المصريين القدماء.(42)
ويظهر مما سبق أن فضل دخول اللغة العربية إلى بلاد يوريا يعود إلى أولئك الدعاة والصوفية والتجار من البرناويين والهوسويين الذين راحوا على نشرا الإسلام وثقافته في البلاد، كما يرجع فضل انتشارها في بلاد يوربا إلى الشيخ تاج الأدب وجماعته الأدبيين والشيخ يوسف الأبهجي وجماعته الزمرة المؤمنين (أصحاب العمائم الكبيرة) والشيخ أحمد الرفاعي بلو والشيخ مدثر عبد السلام والشيخ مرتضى عبد السلام والشيخ عبد الرزاق عبد الرحمن.
ويتبرهن على نهضة العربية في بلاد يوربا وجود مدارس عربية، أهلية وحكومية ذات مراحل إعدادية وثانوية وعالية مثل المعاهد الأدبية في إلورن ودار العلوم لجبهة العلماء ومركز التعليم العربي ودار الإرشاد والإسعاد. في لاغوس والمعهد العربي الإسلامي ومدرسة النهضة العربية في إبادن والمركز الإسلامي الثقافي إضافة إلى ما فيها من النشاطات الحية في تأليف الكتب العربية. وليس من المعتبر ما ذهب إليه بعض الباحثين في هذه الديار من تقليل شأن بلاد يوربا نحو التعليم العربي مثل الدكتور غلانتثى في حركته حيث جعل نيجيريا موقع بحثه الجغرافي وأنساه الشيطان تلك المجهودات التي قام به أولئك العلماء قديما وحديثا نحو تطوير اللغة العربية وثقافتها في بلاد يوربا. ولا غرو في ذلك إذ قد استهان رجل سامي اسمه الشيخ محمد مصطفى بمكانة علماء نيجيريا في العلم فقال: أنه وجدهم على الجهل فرد عليه الشيخ آدم في لمحات البلور(43) وهكذا أفضى مثل هذا البلاء إلى إهانة جهور الزمرة المؤمنين نحو العربية وثقافتها في بلاد يوربا خاصة وفي نيجيريا عامة.
5:2 الأدب العربي النيجيري وتحديد عصوره الأدبية
لاشك أن الأدب هو أحد أشكال التعبير البشرى عن مجمل عواطف وأفكار وخواطر وهواجس يجعلها الإنسان المتمكن في الأساليب الكتابية المتنوعة الأغراض والفنون وبهذا التنوع تتضح للإنسان أبواب القدرة للتعبير وأكاليل المملكة للتخيل أمام ارتباط الأدب باللغة ارتباطا وثيقا. فالنتاج الحقيقي للغة والثقافة المدونة بهذه اللغة العربية يكون محفوظا ضمن أشكال الأدب وتجلياته مع اختلاف المناطق والعصور.
فالأدب العربي النيجيري هو عبارة عن الأعمال الأدبية التي جادت بها قرائح علماء نيجيريا في عهدها القديم والحديث سواء كانت مكتوبة باللغة العربية، أو باللغة المحلية المكتوية بالأبجدية العربية التي اصطلحت عليها بالكتابة الأعجمية. وهذه الإنتاجات الأدبية هي بمثابة التراث الأدبي النيجيري الذي قد ضاعت بأكثرها يد الضياع. ولولا تلك عوامل النهضة الأدبية التي أسادت بها مصر العربية في العصر الحديث، لما خرجت انتاجاتنا الأدبية من حيز العدم إلى حير الوجود (44).
هذا، فإن الأدب العربي النيجيري لم يزل من بين الظواهر الاجتماعية المتأثرة بغيرها من الظواهر الأخرى كالحياة السياسة والاجتماعية والنشاطات الفكرية والحضارية للوطن النيجيري والبيئة الطبيعية التي ينشأ فيها. فأصبح بذلك أدباً ومرآة صادقة وعابرة عن جميع مجالات الحياة المتعددة الجوانب، ومن حيث السعادة والشقاوة والعواطف والانفعالات والأحلام والتشاؤم والتفاؤم والتقدم أو الخلف والتطلع إلى المستقبل (45).
يرجع تاريخ المحاولة في تحديد العصور الأدبية للأدب العربي إلى مطلع القرن العشرين، حين رأت الجامعة المصرية ضرورية تأليف كتب الأدب للدراسة في الجامعات على الطريقة التي ارتضتها الجامعة في عام 1907م. وألحت على بعض كتّاب العصر للقيام بهذه المهمة، فتقدم كثير منهم أمثال جرجي زيدان ومصطفي صادق الرافعي. فكان تقسيم العصور الأدبية في العالم العربي إلى خمسة عصور هو المحاولة الأولي في هذا المجال. وهي: العصر الجاهلي، عصر صدر الإسلام، العصر الأموي، العصر العباسي، العصر الانحطاطي أو عصر الدول المتتابعة، والعصر الحديث. ولقد تمادي ببعض مؤرخي الأدب تفكيرهم الثاقب حول بعض ظواهر الحياة الاجتماعية الفارقة بين انتاجاتنا الأدبية فقسموا الأدب العباسي إلى أربعة عصور، شملت خمسة قرون أربت عليها السلطة العباسية. ولعل الرأي السديد هو ذلك القائل برباعية العصر العباسي ،لأن صور الحياة الفكرية والوجدانية لا تستقيم علي حال واحدة ، وحتى تكون تلك المدة الطويلة عصرا واحدا لمطابع واحدة وسمت معين وخصائص واحدة(46) .
أما تحديد العصور الأدبية للإنتاجات الأدبية في نيجيريا لخطوة جديدة لم تكن في القرن الثامن والتاسع عشر، بل نشئت في العقد الثامن من القرن العشرين لضرورة احتياج الدراسة الأدبية إلى التحديد الزمني لتسهيل الدرب إلى معرفة أحوال الأعمال الأدبية من زمن إلى آخر من ناحية القوة والضعف أو التقدم والانحطاط في هذه الديار. فانقسم الأدباء في نيجيريا في هذا التحديد إلى فريقين: فريق يتزعمهم الدكتور على أبوكر، يرى هذا الفريق تحديد الأدب حسب القرون التي عاشت فيها الأدباء، وينتقل من أعمال أدباء قرن إلى قرن آخر. مع التنبيه اللازم والإشارة العابرة عن الفوارق كل قرن من حيث الازدهار والإضمخلال. والحقيقة أن أنصار هذه الفكرة تأثروا كلّ التأثير بالأدب الأنجليزي الذي كان هو الأدب الغالب والغزو الفكري للثقافة العربية وآدابها في هذا الوطن العزيز (47)
وأما الفريق الثاني من مؤرخي الأدب العربي النيجيري، فإنهم يرون التحديد بالعصور متأثّرين بالأسلوب السائد في تقسيم العصور الأدبية في العالم العربي .ولعله ليس من المبالغة إذا قلنا أن الشيخ آدم عبد الله الإلوري سبق جميع مؤرخي الأدب في نيجيريا خاصة، وفي غرب أفريقيا عامة إلي فكرة ضرورية التحديد للأدب العربي النيجيري حيث قال:
إنه يرتبك دارس الأدب العربي في هذه البلاد، إذ يحد نفسه تجاه مفترق الطرق لا يدري أين يتوجه، هل يصير على طول القرون فيخرج من قرن إلي آخر ويستقصى ما فيه من علماء وشعراء والقرون التي نهضت بالأدب عديدة وركابها صعب أو ينهج منهج القبائل ويحضر الأدباء والعلماء في حدود كل قبيلة والقبائل التي أنجبت العلماء والأدباء متشعبة...(48)
هذا، فإن الشيخ الإلوري هو أول من ألقي دلواه في دلاء تحديد العصور الأدبية في هذه الديار، مع اعترافه الظاهر بالمذهب المستحسن لتحديد العصور الأدبية في البلاد العربية اليوم، وإعجابه بالأسلوب الذي سار عليه ذلك الكاتب القدير التونسي حسن حسني عبد الوهاب في كتابه تاريخ الأدب التونسي.
وهذا هو التحديد عند الشيخ الإلوري:
1- العصر البرنوي أو البربرى: بدأ بدخول الإسلام إلى الجزء الشمالي النيجيري في القرن الخامس إلى السابع الهجري.
2- العصر الونغري: بدأ من القرن السابع إلي التاسع الهجري ويصادف هذا العصر عصر النهضة العلمية بتمبكتو وجني وغيرهما.
3- عصر المغيلي: استهل العصر من القرن السابع وانتهي في القرن الحادي عشر الهجري.
4- عصر الفلاني: بدأ بظهور بن فودي وقيام دولته إلى أن سقطت سلطته تحت أقدام الإنكليزيين (أصحاب الغزوات الفكرية المعادية للإسلام واللغة العربية).
5-العصر الإنكليزي:فبدايته من مطلع القرن العشرين إلى وقتنا الحاضر(49)
أما تقسيم الدكتور غلادنث فهو كالأتي:
1- فترة تأسيس المماليك والولايات: كانت بدايتها قبل القرن العاشر الميلادي إلى آخر القرن الثالث عشر تقريبا.
2- فترة الوفود والحركات الثقافية الإسلامية: وهي من القرن الرابع عشر إلى الثامن عشر تقريبا.
3- فترة دولة سكتو: وبدايتها من العقد الأول من القرن التاسع عشر 1804م) إلى أن اخترمتها الغزوات الفكرية الاستعمارية في سنة 1903).
4- فترة الاستعمار: وتبدأ من سقوط الدولة (1903) إلى عام الاستقلال (1960).
5- فترة ما بعد الاستقلال: وتبدأ من الاستقلال إلى اليوم (50).
و أما تقسيم البروفيسور زكرياء حسين وهو:
1- عصر الاستهلال أو عصر كانم وبرنو والموحدين (1000-1300).
2- عصر الاسترشاد أو عصر الدعاة الوافدين (1300- 1804)
3- عصر الاستقرار أو العصر الفودي ( 1804- 1903)
4- عصر الاستعمار (1903- 1960)
5- عصر الاستقلال ( 1960- 1999)
6- عصر الازدهار ( 2000- إلى ما شاء الله) (51)
وعلى مدى فلسفة تقسيم العصور الأدبية في هذه الديار، بين هؤلاء مؤرخي الأدب الثلاثة، نستنتج ما يأتي من النقاط التي تشير إلي وجوه الاتفاق والاختلاف بينهم.
(1) الاتفاق بين الشيخ الإلوري والدكتور غلادنث في تخميس العصور الأدبية
(2) الاختلاف في نسبة العصور، فالشيخ الإلوري نسب العصور إلي أهم القبائل الذين أظهر الله بها الإسلام واللغة العربية في نيجيريا وأيضا إلي الشخصيات المبرزة في الحركات.ولكن الدكتور غلادنث آثر إسناد كل فترة إلي الحركات والحوادث الهامة التي وقعت فيها. وأما البروفيسور زكرياء حسين فقد جمع بين المذهبين، فأسند إلى القبائل كالإلوري،والى أهم الحركات والحوادث كغلادنث .ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد هو أن البروفيسور زكرياء حسين ،قد استطاع أن يضيف جديدا إلي المعلوم ،وذلك هو العصر السادس الذي عبّر عنه بعصر الازدهار.ولعل ما يلاحظه البروفيسور حول ما اكتسبته الإنتاجات الأدبية النيجيرية بعد الاستقلال من خصائص وسمات- ولو كانت متقاربة ومتشابهة - هو العامل القوي في إضافة العصر السادس.وكما يلاحظ من صنع البروفيسور في هذا المجال أنه غلب عليه استعمال السجع في المسميات.ولعل ما في هذه الكلمات من وجوه المقاربة في المخارج النطقية تعد دلالةً واضحة إلي غرض البروفيسور الحفيّ في التقريب بين مذهب الإلوري ومذهب غلادنث في تقسيم العصور الأدبية في هذه الديار

هوامش الباب الثاني
1- New West-African Atlas (Third Edition), Olaya Fagbemigbe Ltd, Akure, Nigeria, 1977. P. 13.
2- حسب احصائيات سنة 2006م.
3- أحمد سعيد الرفاعي، (1992م)، السياسة النيجيرية، ط1، مطبعة أشيواجو، إكيجا، لاغوس، نيجيريا، ص: 23-24.
4- Reuben K. Udo, Environments And peoples of Nigeria: A Geographical introduction to the History of Nigeria History Pg 7.
5- Ibid, P. 14
6- الإلوري، آدم عبد الله، (1971م) الإسلام في نيجيريا والشيخ عثمان بن فودي الفلاني، ط 2، أجيجي، لاغوس، نيجيريا.
7- New West African Atlas . P. 14
8- القرناطي، (1925م)، تحفة الألباب، نشر فرار، باريس، لندن، ص 41، المسيحية والإسلام والسلالات الإفريقية (1888م) لندن، ص 350
9- Karl Maier, This House Has fallen, penguin, London / Spectman, Ibadan, 2001, P. 20.
10- CIA-The Word Fact book Google.com
11- سورة آل عمران، آية 84.
12-مقالة بعنوان، آفاق تطوير اللغة العربية في بلاد المسلمين للدكتور الشيخ إبراهيم محمود غوب Google.com.


13- ابن الأثير، أسد الغابة، موقع الوراق، htt://www.alwarraq.com ،
ج1، ص 62.
14- ابن سعيد المغربي، الجغرافيا، موقع الوراق htt://www.alwarraq.com ، باب الإقليم الأول، ج 1، ص: 12.
15- القزويني، زكرياء بن محمد بن محمود (مؤرخ جغرافي)، (1208-1283م)، آثار البلاد. وأخبار العباد، باب بلاد الحبشة، ج 1، ص:6
16- الإلوري، آدم عبد الله، المرجع السابق، ص:18
17- انظر: كتاب الشعوب والسلالات الإفريقية للشيخ محمد عوض محمد، ص:359، وكتاب انتشار الإسلام والعروبة فيما يلي الصحراء الكبرى للشيخ حسن إبراهيم حسن، ص: 310.
18- اختلف المؤرخون في تسمية السلطان نفسه بعد إسلامه فقيل: هو محمد وقيل: عبد الجليل عبد الله أنظر: كتاب الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام للشيخ المقيريزي ص:21-23 وكتاب حركة اللغة العربية وآدابها في نيجيريا، للدكتور أحمد شيخو غلادنتثى.
19- الإلوري، المرجع السابق، ص: 31
20- الإلوري، المرجع نفسه، ص: 33
21- الإلوري، المرجع نفسه، ص: 34
22- قريب الله بن محمد ناصر كبر، (شيخ) (1424هـ، 2002م) دور الطريقة القادرية في رفع مستوى اللغة العربية والتربية الإسلامية في غرب أفريقيا، ط 1، ص 20
23- وهو أستاذ الحضارة المغربية بمدرسة اللغات الشرقية بباريس، قالها في جريدة لوموند الفرنسية في عام 6/8/1966م.
24- ناصر الدين الأسد، حوار الثقافات: تحرير المصطلح والمنهج، مجلة التواصل، طرابس، العدد الأول، 2004م، ص: 1240.
25- أحمد حسن الزيات، تاريخ الأدب العربي، ط 25، دار النهضة للطبع والنشر، القاهر، ص 100
26- الدكتور إبراهيم محمود جوب، المرجع السابق.
27- انظر: رسائل ملك إبادن في "مركز تقييد المخطوطات العربية جامعة إبادن، نيجيريا.
28- علي عبد الواحد وافي، (1945م) علم اللغة، نهضة مصر، القاهرة،
ص 226.
29- أحمد شيخو غلادنتثى حركة اللغة العربية وآدابها في نيجيريا
(1414هـ، 1993م) ط 2، شركة العيمان للطباعة والنشر، الرياض، ص 19.
30- هو أستاذ جامعي، لغوي، تربوي، ومدير سابق لكلية التربية، درس في كليات التربية في نيجيريا وهو الآن يدرس في جامعة كدونا في نيجيريا. له مؤلفات نفيسة في فقه اللغة ومقالات أكاديمية قيمة في مجال التعليم العربي ومناهجه.
31- حمزة إشولا عبد الرحيم حوار الثقافات: اللغة العربية والتقدم العلمي والتكنولوجي في نيجيريا في القرن الحادي والعشرين (آلام وآمال)، مجلة التواصل، طرابلس، العدد الأول، 2004م، ص 62.
32- الزنوج بضمة الزاء والنون، قوم من السودان واحدهم زنجي بكسر الزاء، وقد يقال له أيضًا زنج. انظر: المجد في اللغة والأعلام، منشورات دار المشرق، بيروت، ط 28، 1986، ص 307.
33- ar.wikipedia.org/wiki, Google.com.
34- الإلوري، آدم عبد الله، الصراع بين العربية والإنجليزية في نيجيريا. دار التوفيق النموذجية، مصر، ص 5.
35- الإلوري، المرجع السابق، ص 131-132.
36- Google search.www.iu.edu. sa/magazine/6/12/.doc.
37- الإلوري المرجع السبابق ص 32
38- Wikipedia (2006, Oct.): Yoruba in, www.org/wikilYoruba.lang
39- National Yoruba, National Translation Center, in Yoruba, Htm, (2006).
40- A Bamgbose, The English Language in Nigeria in spencer (Ed) The English Language in West African, London, long men, 1971, Pg 36.
41- النظر: رسائل ملك إبادن، المرجع السابق.
42- آدم عبد الله، الإلوري، (1965م)، موجز تاريخ نيجيريا، دار مكتبة الحياة، بيروت، ص 54-56.
43- آدم عبد الله الإلوري، (1982م) لمحات البلوري في مشاهير علماء إلورن، المطبعة النموذجية، مصر، ص 11.
44- داود حميد أوريماديغن، لمحة عن الأدب العربي فى بلاد يوربا (2004م)
ط1،الطيبون –المنظر الإسلامي ،أبيكوتا ،أوغن،ص25.
45-سعد حسين عمر مقبول وعبد الحميد محمد زكرى ،الأدب والنصوص والبلاغة (1456)،ط2،جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ،مكتب الإعلام والبحوث والنشر، ص13،
46- جلال صابر حجازي،في الأدب العباسي والأندلسي ،جامعة الأزهر، كلية اللغة العربية ،مصر العربية ،ص2-3.
47-وكتاب الثقافة العربية في نيجيريا تأليف الدكتور علي أبي بكر ،من خير البراهين الأدبية في تقسيم الإنتاجات الأدبية إلي القرون ،وإن كان أقل رواجا في الاستعمال من غيره.
48- آدم عبد الله، الإلوري ، مصباح الدراسات الأدبية في الديار النيجيرية ،(1992-1421م)، ط2، ص28.
49- الإلوري، المرجع السابق، ص29-30.
50-غلادنث، شيخو احمد سعيد، حركة اللغة العربية وآدابها في نيجيريا،(1414م-1993م) ط2، شركة العيمان للطباعة والنشر، الرياض، ص31.
51- زكرياء حسين المأدبة الأدبية للمدارس العربية في غرب أفريقيا الغربية ،(2000م-1421هـ)،ط1، دار النور للثقافة العربية والإسلامية، أوشي، ص174-181.

غزو العدو الفكري للغة العربية في نيجيريا


غزو العدو الفكري للغة العربية في نيجيريا
إعداد
عثمان إدريس كنكاوي
محاضر بقسم العربية، كلية التربية، إلورن، ولاية كوارا,
مقدمة:
كانت نيجيريا من البلدان التي تتمتع بالعدد الكبير من المسلمين، فيها ما يروق العيون ويجذب العقول من الآثار الإسلامية, ولقد ملكها الحكم الإسلامي قبل الاستعمار البريطاني وكان لسانها الرسمي اللغة العربية. ثم جاء الاحتلال الغاشم البريطاني فكدّر مياهها وجعل أعزة أهلها أذلة, ذلك أنهم فتنوا العربية ومدارسها, ورصدوا لها من كل مكان للقضاء على الإسلام والمسلمين. وفي أول أمرهم بدءوا يعادون العربية بالغزوات العسكرية, ولما رأوا الفشل في ذلك، لجئوا إلى الغزوات الفكرية التي كانت أخفي الأسلحة يحارب بها الأعداء.
فالغزوات الفكرية للتعليم العربي في نيجيريا عبارة عن مجموعة من الدسائس والمكائد والهجمات الفكرية المتلاحقة ذات صلة بتاريخ اللغة العربية ومدارسها قديما وحديثا في نيجيريا، والتي كانت في ظاهرها موجهة إلي العربية ومدارسها لكنها في حقيقتها موجهة إلي الإسلام والمسلمين للقضاة علي التعليم العربي وطيّه في سجل الخمول والنسيان.
فإن هذا البحث محاولة متواضعة لمناقشة تلك الغزوات الفكرية التي حارب بها البريطانيون التعليم العربي في هذه البلاد. فالمبحث الأول في هذه المقالة عبارة عن مفهوم الغزو الفكري، معناه المعجمي والاصطلاحي، نشأته، أنواعه، مظاهره واتجاهاته. بينما يعالج المبحث الثاني التبعات التاريخية لماضي اللغة العربية وحاضرها في نيجيريا ثم جاء المبحث الثالث لمناقشة مظاهر الغزو الفكري للتعليم العربي في نيجيريا. وفي المبحث الرابع تفصيل لآثار الغزوات الفكرية للمدارس العربية في نيجيريا ابتداء بآثار الغزو الفكري في المدارس القرآنية والابتدائية ثم في المدارس الإعدادية والثانوية ثم في الجامعات والمعاهد العليا.
المبحث الأول: مفهوم الغزو الفكري
أولا: معنى الغزو الفكري المعجمي
الغزو الفكري مصطلح مركب من كلمتين هما: الغزو والفكر، وأما الغزو:فهو قصد الشيء وإرادته وطلبه(1)، ويقال غزا العدو غزوا وغزوانا أي سار إلي قتالهم وانتهابهم
في ديارهم(2). وأما الفكر:فهو إعمال النظر أو الخاطر في شيء أو إعمال العقل في المعلوم للوصول إلي معرفة مجهول، والتفكر هو التأمل(3).
فبهذا المعني اللغوي لمادتي هذا المركب التو صيفي يتبين لنا أن معني الغزو الفكري في الدلالة اللغوية هو قصد الشيء وإرادته وطلبه مع تردد القلب وإعمال النظر الثاقب فيه.
أما معناه الاصطلاحي: فلقد عرفه الباحثون بعدة تعريفات يوضح بعضها بعضا في فهم المراد بالغزو الفكري. ومن تلك التعريفات ما يلي:
الغزو الفكري:مصطلح حديث يعني مجموعة من الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء علي أمة أخري أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة(4).
ويقول الآخر من الباحثين بأنه: اتخاذ أمة من الأمم مناهج التربية والتعليم لدولة من هذه الدول الكبيرة فتطبقها علي أبناءها وأجيالها، فتشوه بذلك فكرهم وتمسخ عقولهم، وتخرج بهم إلي الحياة، وتكون تبعيتهم لأصحاب تلك المناهج الغازية مع الاحترام الشديد للآراء الغازية (5).
ويقول نذير حمدان بأن الغزو الفكري لم يعن سوي هجمات فكرية متلاحقة ذات صلة بتاريخ المسلمين وحاضرهم، تطرح شبهات وأفكار مزيفة مستوعبة تراث الإسلام وأحوال المسلمين، وقد انطلقت من البلاد الأجنبية شرقية أو غربية على يد المنتصرين وأقلام المستشرقين بعيدة عن العمل العسكري المسلح(6)
إذًا، فيمكن القول بأن المقصود من الغزو الفكري هو تلك الوسائل غير العسكرية التي اتخذها أعداء الإسلام لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام مما يتعلق بالعقيدة وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط وسلوك ولغة دينهم. وبوجه عام هو كل مجموعة من الجهود التي تتخذها أمة ضد أمة أخرى بهدف التأثير عليها لتوجيهها إلي وجهة معينة، وبعبارة أخرى وهو كل حركة مضادة اتخذها أعداء الإسلام ضد الأمة الإسلامية بقصد التأثير عليها في جميع الميادين التعليمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع استخدام الوسائل والأساليب التي يرونها مناسبة لتحقيق الأغراض(7).
ثانيا:- نشأته، أنواعه مظاهره، واتجاهاته.
أن الدافع الحقيقي إلي نشأة الغزو الفكري هو الحصيلة المرة التي خرج بها الصليبيون من حروبهم الأولى مع المسلمين في القرن الخامس والسادس الهجريين (1012-1011م)، و التي انتهت بالهزيمة الساحقة وعدم تحقيق شيء مما أخرج الصليبين من بلادهم لتحقيقه وبذلوا فيه الأموال والدماء والنفوس. وفي تلك الحروب الأولي وقع لويس التاسع ملك فرنسا في الأسر بعد هزيمة حملته الصليبية، وبقي سجينا في المنصورة فترة من الوقت حتى افتداه قومه وأطلق سراحه.وفي أثناء سجنه أخذ يفكر فيما حلّ به وبقومه ثم جمع قريحته وقال لقومه:" إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده، فقد هزمتهم أمامهم في معركة السلاح، ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم (8) .
وقد سار الأوربيون بالفعل في طريق تنفيذ وصية لويس حيث أعدوا جيوشا من المستشرقين والمنتصرين الذين قاموا بحركة تشويه الإسلام ووصف دستوره بالغموض وتمزيق صفوف المسلمين عن طريق إشاعة النعرات في العالم الإسلامي(9).
وأما أنواعه فعد قسمت أمم الكفر من الشرق والغرب أنواع الغزو الفكري إلى ثلاثة أنواع لتسهيل الدرب في تحقيق أغراضهم. والنوع الأول هو الغزو الفكري النصراني الصليبي و الثاني هو الغزو الفكري الصهيوني والثالث هو الغزو الفكري الشيوعي الإلحادي.
رأي النصارى أن الغزو الفكري أقوي وأثبت من الغزو المادي، ورأوا أن الاستيلاء علي الفكر والقلب أمكن من الاستيلاء علي الأرض، فلجئوا إلي محاربة الإسلام والمسلمين بالغزو الفكري الذي كان هو البديل الأنكي من الغزو العسكري.
وأما الغزو الفكري الصهيوني فهو من اليهود الذين لا يألون جهدا في إفساد حياة المسلمين الاجتماعية والدينية والسياسية، ومن وسائلهم لبلوغ المرام نشر العقائد الباطلة كالماسونية والقاديانية والبابلية والبهائية وغيرها، ويستعين الغزو الفكري الصهيوني بالنصارى وغيرهم في تحقيق المآرب والأغراض. والغزو الفكري الشيوعي الإلحادي يسير على درب شاكلته إلا أنه يمتاز باللجوء إلي اقتطاف أبناء المسلمين ثم تدريبهم على محاربة دينهم الإسلامي وجعلهم ركائز بلادهم ينشرون الإلحاد والفكر الشيوعي بكل ما لديه من المدد والعون(10).
ولقد اتخذ الغزو الفكري بجميع أنواعه للإسلام و المسلمين ولغتهم، مظاهر عديدة واتجاهات مختلفة في طول الأرض وعرضها حاملا في طياتها السم إلي العسل، والموت في شكل الدواء. ونظم أصحاب هذا الغزو الفكري حملات متنوعة، منها: حملات موجهة لتشويه القرآن الكريم وفي ذلك يقول المنصر جون تاكلي:"يجب أن نرى هؤلاء الناس (المسلمين) أن الصحيح في القرآن ليس جديدا، وأن الجديد ليس صحيحا" (11). وللغزو الفكري حملات أخرى منها: ما هي موجهة إلى تشويه السنة النبوية، وحملات لتشويه شخصية الرسول الكريم، وحملات لتشويه التاريخ الإسلامي وتراثه، وحملات لتغريب التعليم العربي والثقافة الإسلامية والنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتغريب الأخلاق والآداب، وتغريب اللسان من لغة القرآن.
المبحث الثاني: ماضي اللغة العربية وحاضرها في نيجيريا
تعتبر اللغة العربية من أرقي اللغات السامية، أسهمت في تاريخ الحضارة والإنسانية في العالم، وأنارت أوربا فكانت وعاءا للحضارة الإسلامية العالمية في مشارق الأرض ومغاربها. ولا ينتهي شرفها لعلاقتها بالإسلام فحسب بل هي لغة ذات ثقافة عالية يتكلم بها أمة عظيمة في آسيا وأفريقيا، ولا تستغني عنها في الشئون الدولية(12). وكما كانت اللغة العربية لغة كلاسيكية لأهل أفريقيا إذ قد مثلت دورا فعالا في احتفاظ تاريخ غرب أفريقيا القديم وثقافته. وفي ما ذكره "ديفدسن" دلالة واضحة علي أولية تدوين تاريخ منطقة جنوب الصحراء سنة 638 الميلادية على يد وهب بن منبه باللغة العربية(13).
ولعله من الصواب بمكان، أن اتصال اللغة العربية بنيجيريا يعود إلى القرن الأول الهجري عن طريق القوافل التجارية والعلماء الوافدين والحجاج. ومنذ ذلك الحين كانت العربية في ماضي حياتها تؤدي أدوارا مهمة في المجتمع النيجيري ومن تلك الأدوار، محو الأمية وتعليم الكبار وتوثيق الوقائع التاريخية وتسجيل الدواوين الحكومية الداخلية والخارجية وتأسيس الدولة التي اتخذت العربية لغة رسمية مثل بلاد صكتو وامبراطورية كانم- برنو وبعض البلاد المحلية في بلاد يوربا(14).
أما حاضر اللغة العربية في نيجيريا لا يزال يتضرر بما قد خططته لها الحملة البريطانية الغاشمة منذ احتلالها، للقضاة عليها والنيل من جاهها ويمكن ملاحظة هذا الظلم للغة العربية بالبحث عن مكانتها اليوم عند الحكومة النيجيرية ومدي تحقيرها لحماة هذه اللغة العربية وثقافتها.
والحقيقة أن هذه الدولة علمانية لا بمعناها الشائع وهو فصل الدين عن الدولة بل بمعناها الحقيقي وهو فصل الدين عن الحياة إذا فالدولة لا دينية أو تقول دنيوية ولذلك تري على وجهها كراهية ماله صلة بالدين عامة وبالإسلام خاصة لأن المسلمين في هذه الديار جماعة إسلامية لا أمة إٍسلامية والعربية لغة دينهم وهي في ظاهرها وباطنها تخدم الثقافة الإسلامية كما تخدم اللغة الإنكليزية والفرنسية في هذه الديار الثقافة الغربية المسيحية(15).ولقد نجح الاستعمار البريطاني في البديل الأنكي للعربية ففرض تعليم الإنكليزية على المواطنين بدلا من العربية وغير ذلك. وكل ذلك لم يكن من سبيل الغزو العسكري المسلح بل بالغزو الفكري النصراني بالتعاون مع التيارات المعادية للعربية في هذه الديار. وقد أحدثت آثار هذا الغزو الفكري للغة العربية في نيجيريا أخرانا أذهلت عقول المفكرين المنتوين.
المبحث الثالث: آثار الغزو الفكري ومظاهره تجاه اللغة العربية في نيجيريا.
ذهب الاستعمار وجاء الغزو الفكري أنكي البديل وأخفي السلاح، واستطاع أن يفعل باللغة العربية في نيجيريا ما فعل بها في الدول العربية إذ هو لا يزال يستهدف في غايتين مهمتين. الأولي: تفريق المسلمين وتفريق اللغة العربية وثقافتها وقطع العربية حتى لا تتم للمسلمين وحدة. الثانية: قطع الصلة بين قديم تراثنا الإسلامي وحديثه وإلصاق القرآن الكريم بكل نقص لتحويل أذواق الأجيال الناشئة عنه(16).
فالمراد بالغزو الفكري للغة العربية في نيجيريا وهو تلك المكائد والدسائس ضد العربية التي كانت في ظاهرها موجهة إلى اللغة العربية لكنها في حقيقتها موجهة إلى القرآن والحديث. ومن المبكي أن يجعل الغزو الفكري اللغة العربية سقط المتاع وحماتها عبيد العصا يعيشون علي هامش المجتمع. وهذا، ولا يخفي على كل متبصر، أن آثار الغزو الفكري قد بدأت تظهر تجاه العربية ومدارسها، كما تعرقل مناهجها التعليمية وتعيب شهادات علومها كما تطوي تراثها في سجل النسيان وتصد عن الأعمال الخبرية الخارجية التي توصل جناحها.
هذا، فإن الدكتور على أبوكر ألقي دلوه في تاريخ هذه الغزوات الفكرية المعادية للتعليم العربي في ثقافته، كما أشار إليها الشيخ آدم عبد الله الإلوري في إسلامية، ودرسها من كل جانب في صراعه مع رسم الخطوط للقضاء عليها في ذلك الكتاب وجعل مركزه مكان التنفيذ لآرائه ضد الغزوات الفكرية المعادية للعربية. وشارك الدكتور غلادنث بحركاته في هذا الموضوع.
المبحث الرابع: آثار الغزو الفكري للمدارس العربية.
لا شك في أن الإسلام هو الدافع إلي نشأة المدارس العربية وانتشارها في نيجيريا. ويختلف نظام هذه المدارس العربية باختلاف الفترات الزمنية للعصور الأدبية في هذه البلاد. وقبل الاستعمار البريطاني مع غزواتهم العسكرية والفكرية كان المسلمين في خلال القرن الرابع عشر يشدون الرحال إلى بعض المراكز العلمية مثل كنو وكشبه التي يأتي إليها الوفود من العلماء مثل وفد الوانغراويين في عهد ملك كنو والشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي في عهد محمد رمقا. ومن الناس من يأخذ خلال السفر إلى الحج بانتهاز الفرصة في استماع إلى علماء الأزهر مثل الشيخ محمد الفلاني الكثناوي الذي اتصل بالشيخ الحسن الجبرتي. ولم يتجاوز مستوي المدارس العربية في القرن الرابع عشر مرحلة المدارس القرآنية والمطالب الدينية البسيطة.(17)
ولما جاء العهد العثماني في القرن الثامن عشر لم تكن المدارس العربية على النظام الرسمي كما نراها اليوم بل طيبت تلك الحكومة الإسلامية معيشة أهل البلاد ولاسيما العلماء حتى كان في استطاعة العلماء أن يفتحوا أبوابهم لجميع الطلاب، وإن لم يتجاوز مستوي المدارس العربية وقتئذ المرحلة القرآنية ومرحلة الدهليز، حيث يتسلح الطالب بجميع الفنون العربية. وهذه المدارس مع ومناهجها القاصرة ومقرراتها غير المتوافرة استطاعت أن تصنع عباقرة في العلوم والفنون أمثال الشيخ عبد الله بن فودي.
جاء الاستعمار البريطاني إلى نيجيريا حاملا في طياته كل الدسائس والمكائد العسكرية والفكرية لتنصير المسلمين وتغريب ثقافتهم وعاداتهم. ولما رأي البريطانيون أن السبيل إلى تحقيق غايتهم وهو الأخذ بزمام التعليم، بدءوا معاملة التعليم العربي بكل ما لديهم من الغزوات العسكرية والفكرية، وفي أول أمرهم آثروا استخدام الغزوات العسكرية وسيلة هادفة إلى تحقيق أغراضهم الباطلة تجاه المدارس العربية. ولما رأوا الفشل والمقاومة الشديدة من الجزء الشمالي النيجيري حيث العربية تتمتع بأرغد عيشها، لجئوا إلى الغزو الفكري الذى كان أخفى السلاح والسم القاتل لمحاربة العربية والقضاء على كيانها في هذه البلاد(18).
ذهب الاستعمار واحتلت مكانه الغزوات الفكرية التي تتجدد كل يوم منذ الاحتلال البريطاني إلى وقتنا الحاضر، كما تتغلغل في الأذهان للقضاء على الإسلام والمسلمين لاسيما التعليم العربي في هذه الديار. وتراها تأتي مع التنكر من الحملة الاستعمارية نفسها أو من أنصارها والمؤيدين لها من المسيحيين وضعاف الإيمان من المسلمين. وكانت الحكومة من أقوي الوسائل لها لتنفيذ أفكارها المعادية للغة العربية في جميع مستوياتها التعليمية.
ونلاحظ آثار هذه الغزوات الفكرية للتعليم العربي بالرجوع والبحث عن الرقود والهبوط الذين يتعلقان بأهداب جميع المراحل التعليمية العربية في هذه والبلاد.
أولا: آثار الغزوات الفكرية في المدارس القرآنية والابتدائية
كانت المدارس القرآنية تتمتع بالحرية الكاملة قبل القرن العاشر الى القرن الثامن عشر وشاء القدر أن تتطور في القرن التاسع عشر أيام السلطة الفودية ثم بدأ تاريخ الغزوات الفكرية للمدارس القرآنية باحتلال القوة البريطانية نيجيريا، ومنذ ذلك الوقت بدأ البريطانيون يصبون جمّ عذابهم على المدارس القرآنية مستخدمين في ذلك كله الغزوات الفكرية المعادية للمدارس القرآنية.
هذا فإن حركة استخدام الغزو الفكري بدأت بإرسال مطران تغويل (BISHOP TUGWELL) المبشر الأول المبعوث إلى شمال نيجيريا، كنو، عام 1900. وفي عام 1906 جاء مللر (MILLER) الذي أصبح قائدا بعد رجوع تغويل إلى انجلنزا، واقتراح الحكومة إنشاء مدرسة داخلية ذات قسمين: قسم لتربية أبناء الرؤساء والملوك المسلمين، وقسم آخر غير داخلي للنائلين شيئا بسيطا من الثقافة الإسلامية، فوافقت الحكومة على ذلك إلا أن الخطة فشلت، ولم تنجح هذه الحملة للمقاومة الشديدة التي أظهرها الشماليون. ولما رأت الحكومة المستعمرة الفشل في هذه العملية الشنيعة، لجئت إلى أن تعير هنس فيشار (HANNS VISCHER) عام 1908 من الإدارة إلى التعليم ليقوم بتنظيم التعليم في الشمال، وقبل شروع فيشار في هذه الواجبة افتطنت إلى أن ترسله الحكومة ورأت أن ترسله أولا إلى بعض البلاد المسلمة التي كان الإنجليز يستعمرونها حين ذلك، فتمت زيارته إلى مصر والسودان وغانا، وفي خلال هذه الزيارات استطاع هنس فيشار أن يقف على أسرار النظام التعليمي في تلك البلاد المسلمة فاقترح للحكومة فتح مدرسة حكومية وتم إنشاؤها في كنو عام 1909.فلما ظهرت ملامح النجاح في هذه المدرسة أنشأت الحكومة مثلها في صكتو وكشينة عام 1911.(19)
ولعلنا نشعر مدي تأثير هذه الغزوات الفكرية علي المدارس القرآنية والابتدائية منذ وطئة قدمي الاستعمار على نيجيريا.ويسرني في هذا الصداد أن أعرض ما قاله الشيخ الإلوري في بيان الإستراتيجيات البريطانية في القضاء على التعليم العربي في المدارس القرآنية وتغريب اللغة والثقافة في المدارس الابتدائية في نيجيريا يقول الإلوري:
" في منصف القرن التاسع عشر الميلادي، أغار المبشرون بخيلهم ورجلهم على بلاد نيجيريا شمالا وجنوبا فوقف لهم المسلمون على الباب وتصدوهم والمرصاد، وخصوصا في الشمال، ولكنهم في الجنود وجدوا مجالا واسعا...................... رغم أنهم وجدوا في أكثر المدن الجنوبية مدارس قرآنية في دهاليز المساجد وبيوت العلماء ............. لم يجدوا إقبالا عظيما من أبناء المسلمين ........... على تعلم الانجليزية، فوقعوا في الأوساط الوثنية والقرى الريفية، فاقتصوا عددا من أبناء الفقراء والفلاحين فضاعت من هؤلاء ......... عقيدتهم واستبدلوها بالنصرانية إلا قليلا منهم في الشمال والجنوب. ذلك قام حماة الإسلام ينصحون المسلمين لها ....... من الوقاع في حبائل التبشير......... جاء إلى نيجيريا بعض العرب المغاربة كالشريف.............. والشامي من العرب المشارقة فأسسوا جمعيات إسلامية ومدارس عربية كما جاء مستشرق انجليزي.......... اسمه......... (ويلمت بليدن)........... كان يجيد العربية.............. وأدرك المسلمين في تأخر وتخلف بعيد في ميدان التعليم الانجيليزي، فسألهم عن السبب فأجابوا أنهم يخافون من ضياع غقيدة أولادهم بدخول تلك المدارس، فأجابهم أن الخطب يسير والحل الوسط موجود................ فطلب فتح مدرسة خاصة لأبناء المسلمين............ في لا غوس............ وكانوا،.......... فبدأت المدرسة تؤدي رسالتها................ ثم عملت الشحناء عملها في نفس رجال الكنائس فقاموا........... بالاحتجاجات....... على إسقاط كلمة إسلامية من اسم المدرسة............. ومن هنا انتبه المسلمون بما يبيته المسيحيون من شر............ فعزموا على إنشاء الجمعيات الإسلامية.(20)
وملامح هذه الغزوات الفكرية للقضاء على المدارس القرآنية لا تزال تشتعل نيرانها في حياة اللغة العربية.وذلك في اندراس المدارس القرآنية والدليل علي ذلك على التفاتنا إلى تلك المدارس القرآنية التي تعلم فيها كلنا وفتحت عيوننا، فإنها بلا أدني شك قد ذهبت بأكثرها العنقاء لأسباب لا محل لها من الإعراب في هذا المقام. فخلاصة القول في تلك الأسباب أن الحكومة البريطانية لم تشجع هذه تلك المدارس القرآنية كما شجعتها الحكومية الإسلامية التي أسقطوها. والحقيقة أن هذه المدارس القرآنية قد لأسهمت في محو الأمة في فجرها وضحاها. لقد استطاع الغزو الفكري أن ينجح في تفريق صفوف المسلمين باستخدام الأيدولوجيا القائلة:"فرق تسد" فأنشأ أول مدرسة داخلية مع تقسيمها إلي قسم لأبناء الرؤساء والأمراء المسلمين وقسم آخر لمن دونهم، فانقسم المسلمون إلي فريقين فريق يؤيد هذا الرأي الغربي وفريق آخر ينكره. وجهلوا الكتابة بالحروف اللاتينية بدلا من الحروف العربية كما جعلوا اللغة الإنجليزية لغة الدولة مع فرضية النجاح فيها في الامتحانات(21).
ومن الغزوات الفكرية أن أدخلت الحكومة اللغة العربية والدين في المواد التي تدرس في المدرسة بعد الطلب الشديد من الآباء والأمراء ومع ذلك لم تقم الحكومة بفعل أي شيء يساعد على نشر هذه اللغة وبث الثقافة الإسلامية، ولم توضع للعربية والدين أي منهاج بل كان كل مدرس يدرس ما شاء بما شاء وكيف شاء. واستمر الحال إلي حوالي خمس وعشرين سنة حتى أقيم مؤتمر لوضع المناهج في كنو عام 1938م فوضع هذا المؤتمر في آخر جلساته مناهج للغة العربية والدين في المدارس الابتدائية إلا أن الحكومة رفقت مع المناهج رسالة لشرح المناهج وفي الرسالة دلالة واضحة عما تضمره الحكومة للغة العربية من الغزوات الفكرية(22).ولعل هذه الصدمة الأولي للغة العربية هي في نظرة الاحتقار والهوان إلى اللغة العربية في المدارس الابتدائية اليوم.
ثانيا: آثار الغزوات الفكرية في المدارس الإعدادية والثانوية
كان التنصير من الغزوات الفكرية البريطانية في المدارس الإعدادية والثانوية وليس من استطاعة هذه المدارس وقتئذ قضاء حاجة المسلمين وإعطاء اللغة العربية والمواد الإسلامية حقها.
فأنشئت في سنة 1930م في كل من صكتو وكنو مدرسة الشريفة على نظام المدرسة الحديثة وكان الطلبة فيها يتعلمون اللغة العربية والشريعة الإسلامية وبعد ذلك جاء الأمير عبد الله بايرو بأفكار جديدة بعد عودته من الحج فأسس مدرسة عربية منظمة (الإعدادية والثانوية) تعرف بمدرسة الشريفة الكبري في سنة 1934(23).ثم بدأ تأسيس المدارس العربية الأهلية بالمرحلين الإعدادية والثانوية ومن هذه المدارس ما كانت علي غرار المدارس الحكومية المسيحية كما فعلت جماعة أنصار الدين، ومنها ما اغترت بتضمين التعليم الإنجليزي في مناهجها كما هو الشأن في مدرسة العلوم الشرعية، وأسست بعد المدارس الإسلامية إلي أبعدت الإنجليزية من مناهجها، كفعل الشيخ الإلوري في مركزه (24).
ومن الغزوات الفكرية التي حدثت للمدارس الحكومية التي أسسها المسلمون علي غرار المدارس الحكومية المسيحية أن قلّ من بين متخرجي هذه المدارس من يمدّ يديه لمناصرة الدين الإسلامي وكانت حالة كالسكر الواقع في الماء. وكذلك تأتي مصيبة الغزوات الفكرية للمدارس التي جمعت بين التعليم العربي والإنجليزي وذلك في الصراع اللغوي والثقافي الذي كان ينتصر فيه الإنجليزي في أكثر الأحايين. والدليل علي ذلك هو ما نراه اليوم في أوساط طلبة المدارس العربية الحكومية والأهلية التابعة للحكومة من الضعف اللغوي والثقافي، ليس لهم الأهلية المرجوة في العربية ولا في الإنجليزية وحتى لو كانت لهم في الإنكليزية أهلية فإن سياسة التعليم النيجيري تحرمهم عن الانضمام إلي قسم إنكليزي. وأما المدارس العربية التي أبعدوا عنها التعليم الإنجليزي فإن البلاء يأتي من ناحية تحقير الحكومة لشهادتها. ولا تعتبر للعمل الحكومي ولا للتقدم الدراسي وغير ذلك. وجزي الله جميع المفكرين التربويين المسلمين الذين فكروا في هذا الشأن فأنشؤوا في كليات التربية قسم اللغة العربية الواسطة (قسم الدراسات الإسلامية و التربية بالعربية) فإن هذا القسم الجديد من نوعه قد أعطي لأبناء المسلمين في المدارس العربية الأهلية كل عز وفضل للتقدم الدراسي، إلا أن فتنة التحقير للشهادات تحرك رأسها عند الالتحاق بالجامعة وذلك في فرضية النجاح في المادة الإنجليزية في الشهادة الحكومية أو المعادلة.
ومن الغزوات الفكرية للغة العربية في المدارس الإعدادية والثانوية الحكومية تضييق مقام اللغة العربية وفرضت اللغة الفرنسية على الطلبة، كما جعلتها اللغة الرسمية الثانية في هذه البلاد، واللغة العربية في السياسة التعليمية الوطنية شبه معدومة. والحقيقة أن العربية أحق باحترام الحكومة لعلاقتها مع البلاد المجاورة الناطقة بالعربية والتفاهم مع أبناءها ولاسيما علاقتها مع الإسلام. ومن آثار الغزوات الفكرية في المدارس الحكومية للغة العربية محو التراث العربي وذلك في إسقاط الشعار العربي الإسلامي من لوائح المدرسة(25).



ثالثا: آثار الغزوات الفكرية في الجامعات
لم يكن الشعب النيجيري يطالب الحكومة بإنشاء جامعة في العقود الأولي بعد دخول البريطانيين إلى هذه البلاد لعدم الوعي القومي، فالحكومة في غزواتها الفكرية لا تحتاج إلى الدراسات العالية لأبناء هذه البلاد.
وأما تاريخ التعليم العالي للغة العربية في نيجيريا فبدأ بسفر الطلبة إلى الأزهر الشريف أو إلي الحلقات العملية في الحجاز، لدراسة العربية والدين الإسلامي ثم تبع ذلك البعثة بواسطة الحكومة إلى مصر في أوائل الخمسينيات. وكان من آثار تلك البعثة وجود المنح الدراسية إلى مصر العربية 1962 والى السودان في سنة 1961- 1962 والى الجامعة الإسلامية بالمدينة عام 1962 ثم العراق 1963م. لقد أثمرت هذه البعثات خيرا كثيرا للتعليم العربي العالي إلا أنها لم تنج من الغزوات الفكرية وذلك في تبطأ الحكومة في إجراءات الإرسال واختيار غير أكفاء.
وطابت الحالة للتعليم العالي في الجامعات النيجيرية أن أنشئ قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة إبادن عام 1961م ولكن الحكومة كانت لا تعادي اللغة العربية وذلك أن القسم كان على أنماط الدراسات شرقي في انجلترا وفي سنة التي استقلت جامعة إبادن التابعة للندن، أنشئت جامعة شمال نيجيريا التي سميت فيما بعد بجامعة أحمد بلّو وذلك في عام 1962م (26). وكانت من كلياتها كلية عبد الله بايرو التي أسست منها الجامعة قسما خاصا باللغة العربية والدراسات الإسلامية. والجامعة كانت تحاول ربط الجامعة بالمجتمع تعيش فيه وتتبني تقاليد أهلها وثقافته كما تتحاشي بعض الأخطاء التي ارتكبتها جامعة إبادن في مرحلتها الأولي. والمهم في هذا المقام ليس سرد قصة تاريخ التعليم العربي في الجامعات النيجيرية ولكن المهم هو تسليط الضوء على تلك الغزوات التي تشن ضد التعليم العربي في ذلك الجامعات.
ولقد لاحظ الشيخ الإلوري مدي تأثير هذه الغزوات الفكرية في جامعات نيجيريا التي كادت تجعل القسم الغربي في الجامعات أضحوكة المفكرين وسخرية المستهزئين في الداخل والخارج، كما رأي الشيخ الإلوري أنه من الغزوات الفكرية للغة العربية في الجامعات تعليمها باللغة الإنكليزية كما هو الحال الآن في بعض جامعات الجنوب النيجيري وجزء قليل من الشمال 27 ومن هذه المكائد والدسائس الاستعمارية استقلال أقسام اللغة العربية عن أقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات والمعاهد العليا لتسهيل الدرب في فصل اللغة العربية عن الدين الإسلامي وكذلك شأن الحكومة في جمع بين قسم العربية والإسلامية في بعض الجامعات لقتل المهارة في تخصص الطلبة.
ومن الغزوات الفكرية للغة العربية في الجامعات حصر العربية في الميادين الأدبية.فرغم أن اللغة العربية كانت من أرقى اللغات العالمية في العلم والحضارة ولا تزال في إمكانها منافسة الحضارة المعاصرة، ولذلك لم نسعى الحكومة في فتح المدارس التي تدرس العلوم والتكنولوجية بالعربية بالمرحلة الثانوية لكيلا يطيب له المقام في الجامعة لدراسة العلوم والتكنولوجيا.ومن الغزوات الفكرية في سياسة التعليم الوطنية للتعليم العربي والديني في هذه الديار فتح جميع الأبواب لإنشاء الجامعة الأهلية وكانت النصرة ذلك للمسيحيين، حيث صدوا سبيل المسلمين عن تأسيس الجامعة الإسلامية، وهذا هو السبب في قلة الجامعات الإسلامية وكثرة الجامعات المسيحية في هذا الوطن. ولا تزال تلك الجامعات الإسلامية القليلة مقيدة بقيود تخرجها عن نطاق الإسلام28

الخاتمة
ذهب الاستعمار بعد الاستقلال واحتلت مكانه الغزوات الفكرية التي تغير نجيلها ورجلها على الحياة الاجتماعية و السياسة والاقتصادية والتعليمية في جنوب نيجيري وشمالها. وقد فعليت بنا الغزوات الفكرية البريطانية مثل ما فعلت بغيرها في أقطار العالم فكانت آثارها تشتعل نيرانها تأكل الصالح والطالح من أبناء هذه البلاد العزيزة.فإن هذا البحث محاولة في بيان تاريخ الغزوات الفكرية للتعليم العربي في نيجيريا، مع الإشارة إلى آثارها في الدراسة العربية بجميع مراحلها التعليمية وتتمحور الغاية من هذه الورقة في تنبيه المهتمين بأحوال التعليم العربي النيجيري وإثارة قلوب المفكرين المتنورين للسعي والجد لرسم خطوط تعيد الحياة للتعليم العربي في هذه الدير حتى لا نبي على الهواء ونكون على سير السلف في مقاومة هذه الغزوات الفكرية من جميع أنواعها.
هوامش
1- الفيروزبادي، بن يعقوب، القاموس المحيط، مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة، الجزء الرابع ص 329
2- القاموس العربي الشامل، طبعة أولى، دار الراتب الجامعية بيروت، ص 415
3- ابن منظور، لسان العرب، المجلد الخامس، دار صادر، بيروت، ص 65
4- ابن باز، (عبد العزيز شيخ) "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " (1411) طبعة ثانية،ج 3، طبع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة و الإرشاد، الرياض، ص 438
5- علي عبد الحليم محمود (دكتور)، الغزو الفكري التيارات المعادية للإسلام، (1496هـ) من منشورات مؤتمر الفقه الإسلامي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض ص 9ز
6- نذير حمدان، الغزو الفكري المفهوم-الوسائل-المحاولات، مكتبة الصديق، الطائف ص 2-7
7- محمد قطب، واقعنا المعاصر (1408هـ) طبعة ثانية، مؤسسة المدينة، جدة، ص 195
8- عاشور، سعيد عبد الفتح (دكتور)، التاريخ السياسي، (1985هـ)، جزء أول، مكتبة الانجلو المصرية، مصر، طبعة سادسة، ص 265.
9- رزق الطويل، (الأستاذ الكرسي)، من قضايا اللسان العربي دارسة في الإعراب والبنية، (1991هـ) جزء ثاني، دار الهدى للطباعة القاهرة، ص 18
10- محمد محمود الصواف، (1399هـ) المخططات الاستعمارية لمكافئة الإسلام، طبعة ثالثة، دار الإصلاح، الدمام، ص 359-354.
11- مصطفى خالدي، عمر فروخ، التبشير والاستعمارية في البلاد العربية، (1983) المكتبة العصرية، بيروت ص 40.
12- سلمان أينلا هارون، مشاكل اللغة العربية في المرحلة التعليمية الإعدادية في نيجيريا "مجلة اللسان (2005م) العدد الثالث، مطبعة ألبي إلورن، ص 148.
13- الإلوري، آدم عبد الله. الصراع بين العربية والإنجليزية في نيجيريا، 1411هـ دار الكتب المصرية، القاهرة، ص 3
14- انظر: رسائل ملك إبادن في مركز تقييد المخطوطات العربية، جامعة إبادن.
15- الإلوري، آدم عبد الله الإسلام اليوم وغدا في نيجيريا، (1985) طبعة أولى مكتبة وهبة، القاهرة، ص 13. والسعدوتي، جمال الدين صبحي (1413هـ) مسابقات وثقافات، دار ابن حزيمة، الرياض ص 92.
16- المصري، جميل عبد الله (1989م) حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، الجزء الأول، مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة، ص 142.
17- غلادنث، أحمد شيخو، حركة اللغة العربية وآدابها في نيجيريا، شركة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض، طبعة ثانية، ص 12
18- انظر: غلادنث، حركة اللغة العربية، ص 79، كيف قام معير هنس فيشار (Hannas Vischer)
بالزيادة إلى بعض البلاد المسلمة التي استعمرها الإنجليز لتسهيل منافسة المدارس العربية.
19- انظر: Graham, S.PGovernment and Mission Education: Ibadan Press, 1966
p 11
20- الإلوري، المرجع السابق، ص 9-13
21- جمبا، مشهود محمود، كتابة لغة يوربا بالحروف العربية نشأة وتطورا، مقالة غير منشورة ص 4.
22- راجع: غلادنث أحمد شيخو، المرجع السابق، ص 84
23- غلادنث: المرجع السابق، ص 84
24- حمزة أشولا عبد الرحيم: الشيخ الإلوري والصراع اللغوي بين العربية والانجلزية في نيجيريا 1997، ص 1.
25- حدث مثل هذه الغزو الفكري للتراث العربي الإسلامي في مدرسة G.S.S إلورن، وذلك في حذف شعار المدرسة "العلم نور".
26- غلادنث: المرجع السابق ص 225.
27- الإلوري، آدم عبد الله: نظام التعليم العربي وتاريخه في العالم الإسلامي، 1980، دار المعرفة، بيروت، 126.
28- زر جامعة الحكمة بمدينة إلورن التي تعتبر أولى الجامعات الإسلامية في نيجيريا، تر كيف تجرى فيها الحياة الاجتماعية والإدارية والأكاديمية.
























الإنتاجات الشعرية لدى زمرة المؤمنين في نيجيريا

الإنتاجات الشعرية لدى زمرة المؤمنين
في نيجيريا
Poetry and Literary Outputs from Zumuratul-Mumineena (Mokondoro) in Nigeria




By
Uthman Idrees kankawi
(Lecturer II)
Arabic Department, School of Languages,
Kwara State College of Education, Ilorin, Nigeria.
P.M.B 1527 Uman Sharo Road.
G.S.M. NO 08033944825


مقدمة:
إن الخوض في غمار البحث عن حركة اللغة العربية وآدابها في نيجيريا، لمن خير المحاولة التي يحتاج إليها عصرنا الراهن. ولعل الاحتفاظ بتراثنا العربي النيجيري لا يثبت إلا ببث كنوزه وتقييد ذخائره الكامنة. فإن الإنتاجات الأدبية شعرها ونثرها لدى زمرة المؤمنين في نيجيريا لم تفز باهتمام الباحثين، ولم تزل القلوب مغلقة بأقفالها بالإنكار الشديد عن وجود أعمالهم الأدبية. فإن هذه الورقة لمحاولة أكاديمية متواضعة تهدف إلى تبرير القول بوجود البضاعة الأدبية لدى هذه الجماعة بل إخراج كنوزهم الشعرية من حيز العدم إلى هذا الوجود.
إذًا، فهذا البحث المتواضع مقسم إلى ثلاثة مباحث، الأول في نبذة تاريخية وجيزة عن زمرة المؤمنين في نيجيريا، فالثاني في بيان مجهوداتهم في تطوير التعليم العربي في نيجيريا، بينما يأتي المبحث الثالث بعرض الإنتاجات الشعرية لدى هؤلاء الجماعة، ثم الخاتمة والهوامش.
المبحث الأول:نبذة تاريخية عن زمرة المؤمنين في نيجيريا.
زمرة المؤمنين في نيجيريا عبارة عن العلماء والأدباء النيجيريين، نشئوا في العقد الثالث من القرن العشرين على يد شيخ الشيوخ والمؤسس الأكبر لزمرة المؤمنين في كافة أنحاء نيجيريا، الشيخ المرحوم يوسف أبي بكر الأداراوي الأبهجي الإلوري النيجيري الأفريقي المتوفى سنة 1979م(1). ولقد خلعوا على أنفسهم في أول أمرهم "زمرة المؤمن إشارةً إلى لقب شيخهم المؤسس للجماعة(2) وراحوا على ذلك حتى ذهب بهم التفكير إلى تغيير الاسم إلى الزمرة الأدبية ثم إلى زمرة المؤمنين الأدبية ثم إلى جماعة زمرة المؤمنين وفي الأخير اشتهر اسمهم بزمرة المؤمنين(3). تفرعت هذه الجماعة في بلاد نيجيريا ثم انتشروا في أواخر أمرهم في بقاع البلاد، جنوبها وشمالها، وامتازوا عن غيرهم بطريقة خاصة تختلف عن طرق غيرهم في مفهوم التربية للتعليم العربي ومناهجه. وباتوا على عقيدة إسلامية -يراها بعض الناس شديدةً مثل آدم يحي الفلاني في كتابه: علي الطريق وأحمد الرفاعي في الإسلام في التاريخ بين الجزيرة العربية وأفريقيا الغربية - أوجبت عليهم لبس العمائم الكبيرة وتوسيع الأكمام وإطلاق اللحية والكراهية الشديدة للتعليم الإنكليزي الأجنبي (4). وقد جابوا البلاد بمواعظهم الزاجرة على الكفار حتى أسلم علي يدهم مئات الوثنيين والمسيحيين الجنوبيين.
هذا، فإن لهم الفطانة والدراية في قرض "واكا" الذي يعتبر شعرًا شعبيًّا، ويحمل هذا الشعر الشعبي في طياته حكما بالغة، كما يأخذ بأقفال القلوب عند الوعظ والإرشاد.
المبحث الثاني:حركة زمرة المؤمنين تجاه التعليم العربي في نيجيريا.
إن تاريخ حركة التعليم العربي في نيجيريا يعود إلى تلك المجهودات التي قامت بها علماء برنو والونغريون ثم الوفود من العلماء العرب قبل العصر البريطاني . فنرى من شمال نيجيريا حركة الشيخ عثمان بن فودي وجماعته، وأخيه الشيخ عبد الله بن فودي مع حزبه، وقبلهما حركة علماء برنوا القديمة نحو التعليم العربي، كما نرى حركة الشيخ آدم عبد الله الإلوري ونقابته في مركزه، والشيخ كمال الدين الأدبي وأنصاره في معهده نحو تطوير اللغة العربية في جنوب نيجيريا.
وأما زمرة المؤمنين في نيجيريا مع كونهم طائفة إسلامية جاهدوا بأنفسهم ونفائسهم لحماية الشريعة الإسلامية، فلما ثنوا انصبابهم إلى السنة النبوية وعضّوا عليها نواجذهم؛ رماهم الناس بالشدة في الدين(5).
هذا، فإن الأدوار التي مثلها زمرة المؤمنين نحو اللغة العربية وآدابها تظهر خلال المتابعة لتاريخ إسهاماتهم تجاه التعليم العربي في هذه الديار. فإنهم قد أنشئوا مدارس قرآنية يتعلم فيها الصبيان المسلمون مبادي الكتابة والقراءة العربية وأتقنوا منها قراءة القرآن الذي مهد لهم الطريقة إلى التعليم بدهاليز تعليمية أنشأها زمرة المؤمنين، يقصدها القاصى والداني من الشبان لطلب العلوم العربية والدينية. وتلك المدارس القرآنية والدهاليز التعليمية التي أوجدها الزمرة منتشرة في جميع الأماكن التي تعتبر ميقاتا مكانيًا لأولئك الجماعة.
ونرى في مدينة إلورن معهد زمرة المؤمنين للشيخ يوسف الأبهجي المؤسس الأكبر لكافة زمرة المؤمنين في نيجيريا وفروعه، وإلى هذا المعهد الأم الذهاب والإياب، وفي مدينة إبادن معهد زمرة المؤمنين لمؤسسه الشيخ عبد السلام بمديلى أمنغن المتوفى سنة 1969م، وتختص هذه المدينة لكثرة المعاهد الزمرية فيها إذ هي العاصمة لحركاتهم، وكما نرى في بلاد لاغوس معهد زمرة المؤمنين وفروعه لمؤسسه الشيخ زبير (Araromi) ومعهد زمرة المؤمنين في مدينة أوفا (Offa) منشئه الشيخ محمد سنوسي (Ayegbami (Anbe وفي أويـو (Oyo) معهد الـشيخ يوســف (Olokunmiman) وفي أوبوموشو (Ogbomoso) معهد الشيخ حمزة (Ile-Salla) وفي مدينة أيبكوتا (Abeokuta) معهد الشيخ محمد إسحاق محمد (Ololapipo) ومعهد الشيخ حمزة (Ipamurin) في مدينة (Ijebu-ode) وفي مدينة (Ishagamu) معهد الشيخ بابا-لبيبي (Baba-labebi) وفي أوشوبو (Oshogbo) معهد الشيخ عبد اللطيف (Owolabi)،كما أسست مثل المعاهد في مدينة (Ikirun) على يد الشيخ أحمد(Faya) وفي مدينة (Ado-Ekiti) على يد الشيخ (Dandawi) وفي (Igboho) على يد الشيخ أديلكن(Adelakun) وفي أيبي (Epe)على يد الشيخ (Panpo Iperu Olohun loju) وفي مدينة (Shaki) على يد الشيخ عبد اللطيف الزكوي وفي كيشي علي يد الشيخ عبد اللطيف والشيخ جامع .
وأما في شمال نيجيريا فإن حركاتهم ليست قوية من حيث الانتشار والأنصار، ومع ذلك فإن شأن أمثال الشيخ عبد الغني زين الأدب في ولاية كدونا والشيخ محمد راجي بن الشيخ عبد الغني في مدينة زاريا، مما يدل على بعض أثار الزمرة الضئيلة نحو التعليم العربي في شمال نيجيريا.
المبحث الثالث:دورهم في كتابة الشعر العربي:
فالواقع أن كتابة الشعر لدى زمرة المؤمنين في نيجيريا عملية أدبية قد اشتغل بها هممهم قبل العقد الثاني من القرن العشرين الميلادي. فكانوا على جناح سفرٍ عظيم في قول الأشعار بأنواعها وقرض الأبيات بأغراضها ونظم القصائد بأساليبها ولم ينعزلوا عن كتابة النثر العربي الفني القيم. وفي مجال الشعر ثبت لهم من الأنواع الشعرية، الشعر التعليمي والغنائي وشعر المناسبات.
وأما الشعر التعليمي:
فهو مجموعة من القصائد اقتصرت فيما مضى علي حفظ المتون واستظهارها، ولكن في العصر الحديث اتجه اتجاها أخلاقياً(6) وهو النوع الذي يستند إلى أفكار علمية، ولكن لا يخلو من متعة فنية كما فعــل (هوارس) في مجال الأخلاق فنظم مجموعة من الحكم والنصائح(7). ولقد ألقى زمرة المؤمنين دلوهم في هذا النوع.
نموذج الشعر التعليمي في إنتاجات زمرة المؤمنين الأدبية.
ومن أمثلة ما قاله زمرة المؤمنين في نوع الشعر التعليمي ما جادت به قريحة أحد شعرائهم في مدينة الورن الأستاذ محمد الأول عبد السلام (صاحب القرآن) في نصيحة الإخوان علي طلب العلم وفي الحث على تحـصيله.
يقول الشاعر:-
فـجل شرقـا مع الـغرب ** بـسعـى العـلـم والأدب
وسـل مـن قلّ من جـل ** من العجـم كـذا الـعـرب
ولا تـستثـن عـن فـن ** بـه تـر قي أعـلى رتــب
نجـاح المـرء في الـعلـم ** ونـيـل الــوطـر والأرب
دروسـي ذاك عـنـوانـي** إلي الخـيــرات والـرتـب
فـإن الـنحـو إصـلاح ** لفي التـحـريـر و النـدب
تـعلـم إنمـا الإعــرا ** ب أغـنـاني مـن الـنسـب
مــواد أو تعــاريـف ** عـبـادات مـن الـقــرب
مـثال زيــد وعــمرو ** تعلـم كن مـن النـجــب
فزيّــن فـاك يـا صـاح** بـعلــم الــنحـو والأدب(8)
وقال السيد عبد الغفار سليمان اولوكمـــيما (Oloke-Miman في قصيدته الدالية المجردة عن الردف والتأسيس يبث فيها بعض الحكم والنصائح إلى طلبة العلم:
فطوبـى لعبد نال من ربه العلـى ** بعلم وآداب و بـالعلم يرشــد
فأسعـده الرحمن بالزهد والتقـي ** وفاز به وهو لدي الناس أسعــد
تعلـم فإن العـلم در وجـوهـر ** وبالعلم صار الحر في الناس أعبـد
ولا سـاهـر فينا كمن هو نائـم ** لا فاسق فينا كمـن هو يشهــد
بكـل لسان أسـأل الله رحمــة ** لهـم إنهم للعلـم فينـا المجــدد
وفي عصرهم ما كان للعلـم لـذة ** ولا ثـوب لا مال بـه يتـعبـد
سلام كأمطـار عليـهم ورحـمة ** على روحهم هم في الجنان المخلد(9)
وهاك قطعة شعرية من قبيل الشعر التعليمي للشيخ إسحاق محمد أحمد كان يحث بها الطلبة علي كتابه "نور الزمان" يقول:
تلميـذ دونك هـذه فاشدد بهـا ** كلـتا يديـك تفـز بعلـم وافـر
لا تسمعن قـول الحسود بأنهـا ** مـما يشوش هبـه كالمهـتاتـر(10)
ولهم أيضا الشعر التعليمي الذي نحي منحي علم التصوف في شعر السيد يوسف مرتضى.
نموذج شعر المناسبات في انتاجات زمرة المؤمنين الأدبية
فمن أفيد ما قيل في هذا النوع شعر الأستاذ أحمد أبوبكر أياجي(Agbaje) في حفلة افتتاح البيت الجديد للشيخ أحمد بن عبد السلام بمديلي، يقول في مطلعه:
يـبنى أناس ديارًا ضخمة العمـد ** بكـل ما عندهـم من ثـروة ويـد
عما قليل إذا بالـدور من خـرب ** و ليـس من والـد فيـها ولا ولـد
وليتهـم حين يبنون الديار بـنوا ** من أنفس النشئ ما تـغنيهـم بغـد
شتـان ما بين من يبنى الديار ومن ** يبنى النفـوس التي تبقـي إلى الأبـد
هذا ابن عبد السلام الخير أحمد من ** يهدى وينقـذ أجيالا مـن الوهـد
إلى أن قال:
ماذا أقـول وفرح اليوم أخرسني؟ ** أو ما سأكتب إذا أضني السرور يـدي
أنا سـررنا ببيت الشيـخ أحمدنا ** بيـت المكارم بيت العلم والرشـد(11)
ومن ذلك ما قاله الأستاذ داود بن الشيخ عبد الرشيد محمد أولورى(Olore) بعنوان: ترحيب القادمين من الحرمين الشريفين:
" توحـد ربي للـورى بالتعطـف ** فهل أحد لا بـالمـهيـن يكتفـي
تنزلـت الطيـار يـوم عـروبـة ** فذلك ما أخـبرت دون الـتعسف
لذاك تفكـرت اجتهـاد قصيـدة ** لتـرحيب شيخي وابنه المتشـوف
فأول قولي: مرحبـا بك شيخنـا ** مجيئـك من بيت العتيق بزخـرف
أبلّغت أستاذي سـلامي إلى أهيـ ** ل ذلك البـلاد بالتحيات أشـرف
سعدنا معا ما جئت وإسحاق بالهنا ** هنيئـا مريئـا جئتمـا بـالتـفوق
قصيدي مقبوض الطـويل تدبـروا ** وما أنا في الواوات بالواو أجوف"(12)
و مثله رائية اللافظ للأستاذ إسماعيل بن الشيخ عبد الرشيد اولورى يقول:
" حـمدلتك الله إن الحـمد إقرار ** لـنعمـة الله أيضـا فهـو إيثـار
فالشاكرون على الإنعـام دائمـة ** عند الإله فأهل الفضـل قد صـاروا
والحمد لله جمعـا جاء مرشـدنا ** مـع ابنه سالمـا يـا نـعم سـيـار
من حجهم حبـذا والله رجعتهم ** بالأمس والفرح من بيت الـذي زاروا
أهلا وسهلا من البيت العتيـق أيا ** أستاذنـا اَلُرَى تحيـيـك أحــرار
من بعد حجك أن لا صرت مكتئبا ** نسئلـه من ربنا مهما سري السـار
لا زلت للمجد أهلا بالعلى أبـدا ** مهما تكن في أراضى الله أشجـار"(13)
الشعر الغنائي في إنتاجاتهم الأدبية
قد عرف العرب الشعر الغنائي في تاريخهم القديم، وكان هو أقدم الأنواع الشعرية يتحدث فيه الشاعر عن ذاته مع تصوير مشاعره وأحاسيسه. كما اهتدي التراث الأدبي النيجيري إلى هذا النوع من الشعر الغنائي منذ أقدم العصور، فكان هو أقدم الأنواع الشعرية في نيجيريا.فكذلك الشأن في انتاجات زمرة المؤمنين الأدبية. فعلى هذا النوع قرض السواد الأعظم من شعرائهم . وتفننوا، وذلك في قرض الأشعار بأغراضه المختلفة من مديح وفخر وزهد ووصف ورثاء وغيرها من الفنون الشعرية كفن التربيع والتخـمـيس والتسبيع. (14)
نموذج فن المديح في انتاجاتهم الأدبية:
قال الشيخ محمد إسحاق أبيكوتا في كتابه مغني المحتاج يمدح الشيخ أحمد بن عبد السلام :
"لئـن كان شيخ الحق أضحي موليا ** ففينا اخو السمحاء عالي المناقـب
عسـى الله أن يبقي نبيلا مهذبـا ** يذود عن السمحاء كل مشاغـب
عنيـت رئيس القوم احمد من غـدا ** يناضل عن دين الهـوى كل ثالب
إمـام همـام ماجـد ذو تـورع ** وبذال جـود في الليالي السواغب
له همـة تسمو إلى المجـد و العلـى ** فـحل على هاماتهـا و الغـوارب
يـري نصرة الإسلام حقاً وواجبـاً ** ويحمي حمي السمحاء عن ثلب ثالب
لقد كان بدراً في البسيطة ساطعـا ** وردما عن الأعداء أهل المشاغب(15)
ويقول الشيخ محمد الغزالي الزياتي في لاميته في تقريظ الشيخ عبد السلام بمديلي، أمنغن:
" وبـعد إلى عبد السلام مديحتـى ** وهو المشهـور الذي بالفتح مقفـل
وإن تـلحظوا عبد السلام بدرسـه ** ترونـه كـالبدر المـنير لـقفـل
وان يسمعوا صوتا للطبل تزفـرت ** بـعلم وحـكم للأبـاطيل مبطـل
فـعاملها عبد السـلام امـونغـن ** وهو الذي المعروف بالحاج بـمدل
عـمامة بالتحلي عمامـة مـالك ** إمـام كبيـر في المـدينة منــزل
ولـو لم يـكن بعد النبي محمـد ** نبـي عـددنـاه نبيـا ومرسـل
وتـلميذ شيـخ عالـم جاهد وفي ** وهو الـذى يسمي بيوسف أجمـلوللأستاذ محمد الأول عبد السلام الإلورى مثل ذلك حيث يقول في مدح
الدكتور عيسى أبي بكر ألبي:
" نـاجـي اليـراع رقعة بيضـاء ** أدّى الـمـداد تحيــة وثنــاء
أدريت من أزجـي إليه قصائـدى ** الـق عـليّ تـمـنيا ورجــاء
حـبر هو الدكتـور عيسى ألبـي ** بعل القريـض إلى الأمـام سـماء
في مـحفض بطـن البسيطة شائم ** لذُري علاك لـه يـدوم نــماء
بـمهارة الإلقـاء تعـي قرائـحا ** دون الــتكلف فيه كــان ولاء
حـل الجريض على القريض عندما ** نظم الريـاض ويعجب الشعــراء
متـفنـن علامـة يـا شـاعـر ** من باليـراعة يدهش القــراء(16)
وله أيضا في مدح الفلانيين حيث يقول:
"فــالفـلانيـون قـوم لـسن ** ولهـم في الـعلم بـاع أحســن
سـل بها تبهـى العلوم عـندمـا ** لا يـزود الـماق فيهـم وسـن
وفي مدح إمارة الورن يقول:
قـيل وقال فمـا يفتيك والـخبر ** عـن تربتي انمـا يغنيكـه الحبـر
مـا تـلتقط أذن أخبـار بلدتـنا ** إلا وصغرهـا مـا تلتقـي البصـر
يا بلدة طيبت في الأرض تربتـها ** ليست تساوى بها البلدان أو مصـر
ارض كمـكة بالإيـمان كوّنـها ** وفي الثراء عليك سائـلي الـنظـر
مأوى العلوم طـحى ربي بسيطتها ** أيام أخبارهـا الصـوم والـفطـر
ذلك بن عالم صولو قائـل بـطل** في حيز دولته البادي كذا الحضـر
ألم تر الناس في ساحاتـه وقفـوا ** نادي البلاط وقام الحـفل والبشـر
وللأستاذ احمد اللبيب الأبهجي قصيدة في مدح كتاب المقامات التي صنعها السيد محمد الأول عبد السلام صاحب القرآن الإلورى يقول:
"مقامـات فكاهات لطالـب ** فـناولني جناهـا ضـروع حالـب
بـأثـمار محـللة فـقاطـف ** ينيـعتـها أخي خذهـا وقالــب
كتاب كان مبسوطـا فطالـع ** فمعـن نـظره من شوق سالــب
ومـن كانت مقامان الإلورى ** بمـثـواه ألا لـيس بـتـالــب
مقامات الإلورى لمن حكاهـا ** نبيل أبي اللبيـب حكيـم خالب (17)
نموذج فن الفخر في إنتاجاتهم الأدبية:
قال الشيخ إسحاق هذه الأبيات تعقيباً في كلمة الإهداء في كتابه مغني المحتاج:
"مشايخ حق كالشموس اشتهارهم ** فما انطمسوا إلا على من به عمـي
ومـا قـلدوا أولاك إلا لأنـهـم ** سمـوا بخصال يقتضين التقدمــا
هـم الخير أحياء وبعـد مماتـهم ** نرى نهجهم للخير أهدى ألـزمـا
وهم حوّطوا الشرع القويم بفضلهم ** فأضحي عن الجهال ممتنع الحمـي
وكم قاصدا للدين يبغـي فسـاده ** رآهم ليوثا خادرين فأحجمـا(18)
ويقول الأستاذ عبد الرحيم بن الشيخ اسحاق أجيتمابي إبادن
نـحن بنـوا الأولورى مـش ** هـور بــأهـل القلــم
عبـد الرشيـد شـيخنــا ** شمـس بـدت في الظلــم
أهــل الحديـث نحـن أهـ ** ل الفقـه سـل في الأكــم
النحــو والصـرف كــذا ** علــم العــروض سلمـي
وأن تســل مــن أصلـنا ** علـم الأولورى علـمــي
مــدرسي مأوى الفنـــو ** ن صــح لا بـالرحــم
كــل المسـانيــد لنــا ** إن شئـت جــئ لتغنــم
ومن يخـــض في ذمنــا ** يـعض كــف النـــدم
كفــوا نــكف نقدكـم ** وجـودكم كـالعــدم(19)
نموذج فن الزهد في إنتاجاتهم الأدبية:
يقول الشيخ تاج الدين تيميدرى أبيكوتا
مـا الدهــر إلا الـعهـود ** لم يكــن فيها الخـلــود
فسـوف يــردي وجــود ** تـنـبـهــوا يـا رقـود
إلى متـي ذالجهـود
إن الـمعـافـي عـليــل ** فيهــا، ومـروى غـليـل
كــل الفقـير ذليــــل ** والخيـــر فيهـا قليــل
و الشـر فيهـا عتيـد.
تــوبــوا إلى الله فيهــا ** وخـلصـوا الـعمل فـيهـا
فــأحسنوا النــظر فيهـا ** واستكثــروا الــزاد فيهـا
إن الـطريـق بعيـد (20)
وقال الأستاذ محمد الأول عبد السلام:
بـعـدا لـمن هــو أدري ** لباسـه ســوف يـعـرى
إن عـيشه كـان مــردى ** لا للخلــود بـأحــرى
فـما عـسـاك الـمتـاب ** خـف مهــاول أخــرى
وقال أيضا:
رفـيق صـا دق حٍي بأمـس ** فأضحي اليوم مردى أليف أنس
كـأني مـخيل ختـف لحٍـب** تعاشرنا حنيفا مديـم كـأس
أراجـل أم تأغيـب سـئوب ** قـريبا بل توفي بغل نفــس
تعاولـت الديـار ونخت أهلا ** وفاة تقحط الخصب بغــرس
فمـين من ادعي الخلد بدهـر ** بأخطار يـروعك ثم نكـس
وقالىأيضا:
هــكـذ زور المـمـات ** وسكــون الـنغــمـات
وانـتهــاء الشـــهوات ** وهـــدوء الحـركــات
وتـقاصــي في الأمــاني ** وهــضـوم اللهـــوات
ونــهاني عــني رقــود ** لـصعـود الـنفـســات
شـتت الشمــل المنــو ** ونــأي عنــي اللـذات
وعلـى دهــرى ســلام ** وجـميـع الشـهـوات(21)
وللشيخ يوسف الأبهجي نظم منثور في الزهد قال:
فـإن الشغل في الدنيـا غرور ** وشاغلها شراب من ســراب
ويـمـنعه العبادة كل يــوم ** ولكن ليس يدفع عن منــون
تدبـر يا أخي فيمن تفانــي ** بفرط الحب للدنيا فماتــا(22)
نموذج فن الرثاء في انتاجاتهم الأدبية:
قال السيد تاج الدين باباتندي في رثاء الشيخ المرحوم عبد السلام:
ألا يا موت مالك لا تبــالي ** بنبل الحتف ترمي بـالتوالـي؟
لأرواح الفحول لدي الحروب ** ذو الألبــاب في در المقـال
وصيرت نفوسهم كعشـب ** تحاصد بالمناجل مـن نبــال
أجاب بأن كل نفوس يومـا ** تذوق الموت ذوقـا بلا جدال
ولكن نفــوس الأولــياء ** بلا شك تطير إلى المعالـــي
سلوت عن بلا الدنيا ولـكن ** فؤادى عن سهار من الوبــال
حياتك لا تماثلــه حيــاة ** بإنقاذ الأنام مـن الضـلال(23)
وقال الحاج عبد اللطيف أووولبي في رثاء الشيخ عبد السلام بمديلي:
و لوكان أحد باقيـا متخلدا ** لكان السلام في الحياة ولم يـزل
ولكن كل المرء بالموت راهـن** ولو عاش عمر النوح لا بد يرحل
وإن كنت في ريب على ما أقوله ** عليك بنظر شيخنا الحاج بنديل
ويا لهف قلبي طال حزن بكائنا ** بتفقيــدنا الشيخ المجدد بنديل
و يا عجبا للمرء يجهل نـفسه ** بإرقاد فيه والتــياقظ النـازل
وقال الأستاذ محمد الأول عبد السلام في رثاء الشيخ موسي يعقوب أديبايو:
أن الأنام استرجعوا ومساجـد ** مس العباد الأين ثم شدائــد
فاهتز أنحاء البلاد وجوهـــا ** يتعاولون عجائـز وولائــد
مـن نعي شيخ لوذعي فائـق ** من فاهه ولســانه لفـوائـد
ذاك المفسر والمعلم للمـــلا ** حبر تقي ذوالقناعة مــاجـد
رب الفصاحة والبلاغة جوهـر** ولعابــه ميمونـة وفرائـد
إن المنابر والخطابـة بــعده ** في الأرض رثوك كذاك جرائد(24)
نموذج فن الوصف في انتاجاتهم الأدبية:
قال الأستاذ محمد الأول عبد السلام في وصف مدينة الورن:
إلورن فيه أعــلام ** لهم في الـعلم أقـدام
بحـار فيه أغــوار ** ليوث لـيسوا أغنـام
إذا ما باح ضحضاح ** يموج عليه أقــوام(25)
و للشيخ إسحاق محمد ابيكوتا قصيدة في وصف أولاد الشيخ المرحوم عبد السلام بمديلي حيث يقول:
أيا باحثا أولاد شيخي وذكرهـم ** فهم اَكُ في الحساب إن كنت تحسب
و ذكرانهم في العد تسعة أشخص ** إناثهمـو َيبٌّ عليـك مرتــب
وحمدلة مرحومــة ثم ملكــة ** نفيسة من قبــل عبــيدة زينب
وأحمد شيخ الحـق ثم سكينــة ** وفاطمـة الزهري وعبد مــؤدب
وميمونة عبد الكـريم ومرتضـي ** وعبد الرشيد بالكتـاب الموظـب
محمد إبراهيم كلثوم فاسمعــن ** وسلمة أيضا وسليمـان معـرب
ورحمة إسماعيل أسماء ختمهــم ** وكلهـمو في الكل أولاد نجب(26)
نموذج فن التربيع في انتاجاتهم الأدبية:
وللأستاذ محمد الأول عبد السلام كتاب سماه مغنم المنح في قصائد المدح لتربيع كتاب ديوان ديمة المحب، ومنه مايأتي
أشكو لمن قد بلانـي ** بحهر شكر لسـاني
أسعي الي ذى المنـان** بحب من قد شفاني
***
سبحان من قد هداني ** تقديسه من سلاني
من غيبة الغـي داج ** بنوره غير وانــي
***
ومن إليه مـآبــي ** ثنيت عروي عنانـي
لـنيل عفــوك ربي** ومن عليه تكلاني(27)
نموذج فن التخميس في انتاجاتهم الأدبية:
يقول محمد الأول الهاشمي ألفا إنلا اوكوتغد في تخميس قصيدة الله لي عدة:
الله لي عدة في كـل آمنـة ** الله لي عدة في كل مخزونة
الله لي عدة في كل فارعـة ** الله لي عدة في كل نـائبة
أقول في كل حالي حسبي الله
يا فارحا بالحرام عند وجدتها ** يا فارحا بالخوان عند فعلتـها
يافارحا بالمصاب عند رؤيتها ** يا فارحا بالمعاصي عند شهوتها
أما علمت بأن الشاهد الله
وما مقامك والأوزار حاملة ** فما مقامك والأعضاء شاهدة
فما مقامك والمكتوم كاسفة ** فما مقامك والأسرار ظاهرة
و النار بارزة والحاكم الله (28)
نموذج فن التسبيع في انتاجاتهم الأدبية:
فأفضل الأعمال الأدبية في هذا الفن هو تأليف الشيخ عبد الرشيد اولوري (olore) بن محمد في تسبيع صوت صفير البلبل للأصمعي العباسي، فمنه ما يأتي:
صوت صفير البلبل ** سير سمين الدلـدل
طير كبير الـزرزر ** برد كثير الصـرصر
دور صغير الجدجد ** قول رشيد الحصحص
هيج قلبي الثمل
والماء والزهر معـا ** الباز والصيد معــا
المال والزين معـا ** العاج والسيف معـا
الجاه والثلب معـا ** البال والسعد معــا
مع زهر لحظ المقل
وكم وكم تيمـني ** وقد وقد تمدنــي
وهل وهل تميسـي ** وبل وبل تمدحـي
ولم ولم تـولـني ** ومن ومن تومنـي
غزيل عقيقل (29)
الخاتمة:
لقد استطاعت هذه الجماعة أن توحي إلي الناس ما أنزلها الشياطين عليها من صناعة الشعر العربي . فقد حاكو القدامى من الشعراء في قول الأغراض الشعرية القديمة ونبذوا مستحدثاتها،لعل السبب في ذلك يعود إلي تلك الكتب التي وقع عليها إعجابهم، فكان الأداء الفني لأعمالهم الأدبية في المستوي الوسيط الذي لا يخلو من الدراسة النقدية.ونحن نقدم تلك الآثار الشعرية الأدبية الجليلة التي لا يستهين بها الوعي المستنير في الأوساط الأكاديمية، تهييجا لهمم الكتّاب وتحريك روحهم على الإقبال بالبحث عن تراثنا العربي النيجيري عامة، وبالاختصاص الإقدام التام الجدي على الأعمال الأدبية لدى زمرة المؤمنين في نيجيريا.
هوامش:
1- أحمد أبو بكر الرفاعي: الثقافة العربية في قرية أبجى، بحث علمي لدرجة الليسانس، جامعة بايرو، قسم اللغة العربية، 1996م، ص 66.
2- ذلك هو اللقب الذي خلعه الشيخ تاج الأدب على تلميذه الشيخ زكرياء أومدا (Omoda) الإلوري، رحمه الله.
3- عبد اللطيف أحمد أديكليكن، (شيخ): آثار الشيخ اللبيب تاج الأدب وكبار تلاميذه شعرًا ونثــــرًا، ط 2، 2006، مطبعة كيووليري، إلورن، نيجيريا، ص 41.
4- ولعل السبب في شدة الكراهية للتعليم الغربي يعود إلى حركة تنصير الثقافة المتطايرة في ذلك الوقت.
5- والشدة على الكفار والرحمة للمؤمنين صفتان مرجوتان للمؤمن أن يتحلى بهما، كما أشار إليهما القرآن الكريم حيث قال: محمد رسول الله والذين آمنوا أشداء على الكفار رحماء بينهم............
6- رمضان سعد القماطي: الأدب والنصوص والبلاغة والنقد, دار الكتاب الوطنية، بنغازى، 1407هـ ص292.
7- سن شاذلي فرهود وآخرون: البلاغة والنقد، (ط3)،وزارة المعارف، المديرية العامة للأبحاث والمناهج، المملكة العربية السعودية، 1981م،ص 95-96.
8- محمد الأول عبد السلام (صاحب القرآن): المقامات، (ط3)،مركز الهدى للكمبيوتر والفنون التخطيطية، إلورن، 2007م،ص 45-46.
9- عبد الغفار سليمان أو لوكنمما: مرأة الطالبين، مطبعة الولد النجيب، إبادن، 2005م، 26.
10- إسحاق محمد أحمد (شيخ): نور الزمان شرح لامية المديح في تقريظ الشيخ عبر السلام بمديلي، (ط1) ص1
11- كان الشاعر من مشاهير تلاميذ أنبا الذي يعتبر زعيم زمرة المؤمنين في مدينة أوفا
12- كان الشاعر من تلاميذ الشيخ عبد الرشيد أولوري (Olore) مدينة (Ojoo)، إبادن. ألقيت القصيدة التي بلغ عددها ثمانية وعشرين بيتًافي سنة (1491-1998م).
13- قصيدة في اثني عشر بيتا لمناسبة الحفلة الترحيبية بقدوم الشيخ عبد
الرشيد أولورى وابنه اسحاق من الحج سنة ( 1998م).
14- حسن شاذلي فرهون وآخرون: المرجع السابق، ص 73.
15- إسحاق محمد أحمد: المرجع السابق 6-7 .
16- محمد الأول عبد السلام (صاحب القرآن): المرجع السابق، ص 92-
93.
17 - محمد الأول عبدالسلام (صاحب القرآن) المرجع نفسه ص 9.
18- إسحاق محمد أبيكوتا: مغني المحتاج، مطبعة كيؤليري للتجارة، إلورن،
ص 4.
19- عبد الرحيم إسحاق: رد الجواب إلي من عدم الدواب، ص 1.
20- تاج الدين تميديرى أبيكوتا: الكتاب النبيه في الزهد، مخطوط، ص 1-3
21- محمد الأول عبد السلام (صاحب القرآن): المرجع السابق ص 35-3
-128.
22- يوسف أبوبكر الأبهجي، (شيخ): التذكرة، مخطوط، ص 2.
23-تاج الدين بن شعيب بابتدي: قصيدة بعنوان: وا أسفي،مخطوطة، إلورن،
ص1.
24- عثمان إدريس كنكاوي: تحفة الزفاف في ترجمة حياة الشيخ موسي بن
يعقوب أديبايو واسهاماته في نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية بمدينة
إلورن، MUSMAT PRINTING RESS، 2007 م،54.
25- محمد الأول عبد السلام (صاحب القرآن): المرجع السابق ص 72.
26- إسحاق محمد أبيكوتا ( شيخ): المرجع السابق، ص 21.
27- محمد الأول عبد السلام (صاحب القرآن): مغنم المنح في قصائد
المدح لتربيع كتاب ديوان ديمة المحب، ص 1.
28- عبد الغني أريو جامع: دراسة عن بعض كبار علماء زمرة المؤمنين
ومجهوداتهم في تطوير اللغة العربية في مدينة الورن، بحث علمي لدرجة
الليسانس المقدم الى قسم العربية، جامعة الورن، 2003، ص 54-55.
29 - عبد الرشيد بن محمد أولوري، اللؤلؤ والمرجان في شرح صوت صفير
البلبل، مطبعة الولد النجيب، إبادن، 1421هـ (ط3)، ص 9-11.